الأربعاء، 12 مارس 2025

01:55 م

"ولاد الشمس"- الأيتام بين العطاء والخذلان !

لم أتمالك دموعي وأنا أشاهد مفتاح وهو يروي، كيف عاش ثلاث سنوات كطفل متبنى مع أسرة منحته الدفء والأمان، قبل أن تنتزعه من حضنها وكأنه لم يكن يومًا جزءًا منها، وكأن الحب الذي غمره كان مشروطًا بغياب طفلها البيولوجي. الحديث عن لحظة التخلي عنه لم تكن مجرد مشهد درامي عابر، بل كانت واقعية لدرجة الألم، حيث يتم التعامل مع الأطفال المتبنين كخيار يمكن التراجع عنه متى شاءت الظروف. أداء طه دسوقي كان أكثر من مجرد تمثيل، بل كان غوصًا في أعماق إنسان جُرّد من حقه في الانتماء مرتين: مرة حين تم التخلي عنه بعد الولادة، ومرّة حين أُعيد بعد أن ذاق طعم العائلة. "ولاد الشمس" ليس مجرد عمل درامي، بل شهادة فنية مؤثرة تُضاف إلى أبرز أعمال الموسم الرمضاني.

فكرة إعادة الأطفال المتبنين إلى دور الأيتام ليست مجرد حبكة درامية تُستخدم لاستثارة المشاعر، بل هي مأساة حقيقية تتكرر في العديد من الحالات حول العالم. فوفقًا للدراسات النفسية، فإن الطفل الذي يختبر التبنّي ثم يُعاد إلى الدار يواجه مستويات عالية من اضطراب التعلق (Attachment Disorder)، وهو اضطراب ناتج عن انقطاع الروابط العاطفية بشكل قاسٍ ومتكرر. يشعر الطفل بالخذلان، وعدم الأمان، ويجد صعوبة لاحقًا في بناء علاقات صحية مستقرة، إذ يفقد ثقته في أن الحب والاهتمام يمكن أن يكونا غير مشروطين.

التخلّي عن الطفل المتبنّى لا يسبب فقط ألمًا نفسيًا مؤقتًا، بل قد يمتد تأثيره ليصبح جزءًا من بنيته النفسية، مما يجعله أكثر عرضة للإصابة بالقلق المزمن، والاكتئاب، واضطرابات الهوية. فتلك المشاعر التي زرعتها الأسرة في قلبه، من دفء وانتماء، تتحول فجأة إلى فراغ موحش لا يمكن ملؤه بسهولة. إذ كيف يمكن لعقل صغير أن يستوعب أن من احتضنه بالأمس قد أصبح اليوم غير راغب به؟ كيف له أن يثق مجددًا في أي يد تمتد نحوه؟

لا شك أن قرار التبنّي مسؤولية عظيمة، لكنه في بعض المجتمعات يُنظر إليه أحيانًا كحلٍّ مؤقت لتعويض الفراغ العاطفي أو مواجهة ضغوط المجتمع، دون إدراك العواقب التي قد تترتب على مثل هذه القرارات حين لا تكون مبنية على التزام حقيقي. وهنا يأتي دور القوانين، التي يجب أن تكون أكثر صرامة لحماية هؤلاء الأطفال، وضمان أن عملية التبني لا تتم إلا في ظل استعداد نفسي واجتماعي وقانوني كامل من العائلات المتبنية.

من الضروري أيضًا تسليط الضوء على أهمية الدعم النفسي لهؤلاء الأطفال، سواء خلال فترة التبني أو بعدها، خاصّة في حال تعرضهم لخسارة أخرى. العلاج النفسي والسلوكي يمكن أن يساعدهم على التعامل مع مشاعر الرفض، وبناء صورة ذاتية أكثر استقرارًا بعيدًا عن الشكوك المستمرة في قيمتهم كأفراد.

"ولاد الشمس" ليس مجرد عمل درامي، بل نافذة على مأساة يعيشها البعض في صمت. قد يظن الكثيرون أن توفير المأكل والملبس يكفي ليشعر الطفل بالأمان، لكن الحقيقة أن الاحتضان العاطفي والاستقرار النفسي هما ما يبنيان إنسانًا سويًا قادرًا على مواجهة الحياة.  فالتخلي عن طفل بعد أن ذاق طعم الأسرة هو بمثابة انتزاع روحه مرتين: مرة حين وجد نفسه وحيدًا في البداية، ومرة حين تلاشى الأمل في أن يكون لديه بيتٌ ينتمي إليه. 

search