
سيكولوجية "نكد المرأة"!
العلاقات الإنسانية من أكثر الجوانب تعقيدًا في الحياة، لكنها تصبح أكثر إرباكًا عندما يغيب الفهم الحقيقي للاختلافات العميقة بين الرجل والمرأة. فهما لا يختلفان فقط في المظهر أو في بعض السمات السطحية، بل يمتدان في اختلافاتهما إلى التكوين النفسي والعاطفي والعقلي، وهو ما يشعل حروبًا بين الاستيعاب وسوء الفهم، مما يجعل العلاقات عرضة للاضطراب والتوتر المستمر.
هذه الإشكالية ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى بداية الخليقة، حيث كان الرجل والمرأة يحاولان التعايش رغم اختلاف طبيعتهما. ومع تقدم الدراسات في علم النفس والعلاقات البشرية، أصبح من الواضح أن جزءًا كبيرًا من الخلافات بين الجنسين لا ينشأ بسبب سوء النوايا، بل بسبب عدم استيعاب كل طرف لطريقة تفكير وشعور الطرف الآخر.
فمثلاً من الشائع أن يصف بعض الرجال النساء بأنهن "نكديات" أو يمِلن إلى افتعال المشكلات، لكن هل هذا الوصف يعكس حقيقة علمية، أم أنه مجرد اختلاف في طرق التعامل مع الضغوط والمشاعر؟
لفهم هذه الفكرة بشكل أعمق، يجب الرجوع إلى الدراسات النفسية والبيولوجية التي تفسر الفروقات بين الجنسين في التعبير عن المشاعر والتعامل مع المشكلات.
وتشير الدراسات إلى أن اللوزة الدماغية (Amygdala)، المسؤولة عن معالجة العواطف، تكون أكثر نشاطًا لدى النساء، مما يجعلهن أكثر حساسية للتفاصيل العاطفية ويشعرن بالمواقف العاطفية بحدة أكبر من الرجال.
كما تؤثر الهرمونات مثل الإستروجين والبروجستيرون على مزاج المرأة، وقد تسبب تقلبات عاطفية في بعض الفترات مثل الدورة الشهرية، الحمل، أو سن الأمل، مما يجعلها أكثر حساسية تجاه الضغوط اليومية. كما أن إفراز الأوكسيتوسين المعروف باسم "هرمون الترابط"، يجعل المرأة أكثر ميلًا للتواصل العاطفي، وعندما لا تجد استجابة من الرجل، قد تشعر بالإحباط وتعبر عن ذلك بشكل يبدو للرجل وكأنه "نكد".
عندما تشعر المرأة بالحزن أو التوتر، تلجأ إلى الكلمات كملاذ آمن، تبث من خلالها ما تخبئه مشاعرها، بحثًا عن التفهم والاحتواء. في المقابل، ينسحب الرجل إلى عزلته، يلوذ بصمته باحثًا عن حلول دون أن يعبّر عمّا يدور بداخله.
وبينما تنتظر المرأة مشاركةً عاطفية، يقدّم الرجل حلولًا عملية، فيبدو لها وكأنه يتجاهل مشاعرها، ويبدو له أنها تضخّم الأمور دون داعٍ. وهكذا، تتشابك الخيوط بين حاجتها إلى التعاطف ورغبته في إيجاد حل سريع، فتجد نفسها تكرر الحديث عمّا يزعجها، بينما يراها هو غارقة في دائرة لا تنتهي من الشكوى، فيسميها "نكدًا"، وهي في الحقيقة مجرد محاولة للوصول إلى الشعور بالأمان العاطفي.
كما أن المرأة لا تعبر عن استيائها بغرض افتعال المشاكل، بل تسعى، بوعي أو دون وعي، إلى لفت الانتباه إلى مشكلة لم تحل بعد، بأسلوب يتسم بالعاطفة والعمق، ما قد يراه الرجل دراميًا أو مبالغًا فيه. فهي لا تنسى بسهولة، ولا تتجاوز الأمور بسرعة، بل تعيد استحضار التفاصيل مرارًا، وكأنها تبحث عن فهم أعمق لما حدث، عن إجابة تشفي غليل قلبها. بينما يمضي الرجل قدمًا، متجاوزًا ما مضى وكأنه لم يكن، غير مدرك أن ما لا يُناقَش في قلب المرأة، يظل حيًا، يتردد صداه في دواخلها.
أضف إلى ذلك أن المجتمع قد رسم لكلٍ منهما إطارًا صارمًا، فشجّع المرأة على التعبير عن مشاعرها، بل وربط ذلك بأنوثتها، بينما أوحى للرجل أن الصمت والتحفظ هما رمز قوته ورجولته. وهكذا، عندما تتحدث المرأة، يراها الرجل لحوحة، وحين يعالج الأمور بصمت، تراه هي باردًا أو غير مهتم. في جوهر الأمر، لا أحد منهما مخطئ، بل هما مجرد كائنين مختلفين، يقتربان بطرق متباينة، في لقاء أبدي بين العاطفة والمنطق، بين الحاجة إلى الاحتواء والرغبة في الحل.
للأسف، كرّس الإعلام والموروثات الاجتماعية فكرة أن "المرأة تحب النكد"، حتى بات بعض الرجال يفسرون أي تعبير عاطفي منها على أنه امتداد لهذه الفكرة، دون أن يمنحوا أنفسهم فرصة لفهم حقيقتها. وهكذا، كلما تحدثت، ظُنّ أنها تفتعل المشكلات، بينما كل ما تريده حقًا هو الشعور بالأمان والاحتواء.
على الرجل أن يدرك أن كلماتها ليست دعوة للخلاف، بل نداء للطمأنينة، وأن صمتها حين تتوقف عن البوح قد يكون أكثر خطرًا من حديثها الطويل. في المقابل، على المرأة أن تتفهم طبيعة الرجل، فلا ترى في صمته جفاءً، بل أسلوبًا مختلفًا في التعامل مع الضغوط، فبينما تبحث هي عن الأذن التي تنصت، يبحث هو عن الحل الذي ينهي المشكلة.
إن ما يُطلق عليه البعض "نكد" قد يكون في حقيقته مجرد لغة المرأة في التعبير عن مشاعرها، طريقة غريزية لطلب الدعم العاطفي والاقتراب ممّن تحب. فالفروق البيولوجية والنفسية تجعلها أكثر حساسية للعواطف، وأكثر ميلًا للتواصل اللفظي، بينما يفضل الرجل المنطق والحلول العملية. حين يدرك كل طرف هذه الفروق الجوهرية، يصبح التواصل أكثر سلاسة، والعلاقات أكثر دفئًا، بعيدًا عن الأحكام الجاهزة التي لا ترى إلا سطح الأمور، فيما يغيب عنها عمق المشاعر التي تحركها.

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
التقلقل العاطفي في "الكابتن".. عندما يصبح الضحك اضطراباً!
04 مارس 2025 12:07 م
المشاكل النفسية.. من الحب وإلى الحب!
13 فبراير 2025 10:10 ص
أساطير حول الفُصام واضطراب الهوية.. صِناعة سينمائية مضلِّلة!
04 فبراير 2025 12:48 م
أكثر الكلمات انتشاراً