الثلاثاء، 08 أبريل 2025

12:21 م

تجارة الأبحاث العلمية.. جريمة بغطاء قانوني

في زمنٍ صار فيه كل شيء معروضًا للبيع، حتى العلم، تفشت ظاهرة تضرب صميم الفكر الأكاديمي، وتُفقد الشهادات العلمية معناها، وتحوّل البحث العلمي إلى مجرد أوراق ممهورة بأختام رسمية، لا تحمل بين سطورها جهدًا ولا اجتهادًا، إنها ظاهرة "تجارة الأبحاث العلمية"، التي باتت تنتشر كالنار في الهشيم، تفرخ جيلاً من الباحثين الزائفين، الذين لم يعرفوا معنى السهر على ورقة، ولم يذوقوا مرارة التمحيص والتدقيق، ولم يشعروا بلذة الاكتشاف والإضافة، بل اكتفوا بتوقيع استلام شهادة، دفعت قيمتها مسبقًا في سوق النخاسة العلمية.

لم تعد هذه التجارة المشبوهة حكرًا على الهامش، بل زحفت إلى قلب المؤسسات الأكاديمية، وامتدت أصابعها إلى أروقة الجامعات، حتى باتت جزءًا من منظومة صامتة، يراها الجميع ولا يحركون ساكنًا، المؤسف أن من يُديرون هذه المصانع ليسوا دجالين مجهولين أو سماسرة في الأزقة الخلفية، بل في كثير من الأحيان، هم أنفسهم من يفترض أن يكونوا حرّاس العلم، وأوصياء المعرفة، وأهل الفكر والتنوير، أساتذةٌ وباحثون خانوا رسالتهم، وفضلوا أن يكونوا تُجارا بدلاً من أن يكونوا قدوة، يبيعون الأبحاث كما تُباع السلع، ويروّجون لوهم التفوق الأكاديمي مقابل حفنة من المال.

أين الضمير العلمي؟ أين شرف المهنة؟ أين قدسية البحث؟ كل هذه الأسئلة تتهاوى أمام طغيان المادة، فلا مكان اليوم للنزاهة في عالم صار النجاح فيه لمن يملك ثمنه، لا لمن يستحقه. الباحث الحقيقي، الذي يضني عقله بين المراجع، ويغوص في بحار المعرفة، ويجاهد لصياغة فكرة، بات مساويًا لمن يذهب إلى هذه المصانع، ويدفع مبلغا ليحصل على بحثٍ جاهز، لم يُساهم فيه سوى بتحديد موعد التسليم، أي عدالة هذه التي تسوي بين العالم والمنتحل؟ أي مهازل هذه التي تُنتج أجيالًا من "الباحثين" لا يملكون من البحث إلا اسمه، ولا من العلم إلا ورقةً مُعلّقةً على الجدران؟.

إن هذا العبث لا يهدد الأفراد فحسب، بل يضرب بجذوره في مستقبل أمة بأكملها، يسرق منها عقولها، ويُفرغ جامعاتها من مضمونها، ويجعل من "التعليم العالي" مجرد لافتة بلا مضمون. ومع كل هذا الخراب، لا يزال القانون غائبا، كأن هذه الجريمة لا تستحق أن تُدرج ضمن الجرائم الكبرى، كأن تدمير العلم أقل خطرا من تزييف عملة أو تزوير مستند رسمي، ألا يستحق البحث العلمي حمايةً؟، ألا يستحق التعليم رادعًا يمنع هذا الانهيار الأخلاقي؟.

وهنا، أوجّه رسالة صريحة إلى السادة أعضاء هيئة التدريس الشرفاء، ممن لا يزال في قلوبهم ذرة من الإيمان برسالتهم: دققوا جيدًا في الرسائل العلمية، لا تكتفوا بالمراجعة السطحية، ولا تسمحوا بمرور الأبحاث دون فحصٍ دقيقٍ وتحقيق، ناقشوا الباحث بعمق في كل جزء يقدمه، اجعلوه يبرهن على أنه صاحب الفكرة والجهد، اختبروه حتى تتأكدوا أنه لم يشتر بحثه من هذه الأسواق المشبوهة، ولا تجعلوا التهاون في ذلك بابا لتسلل المزيفين إلى ساحات العلم.

ولست أكتب هذا المقال من فراغ، بل من واقع تجربة شخصية، حيث عُرض علي مرارًا أن أشارك في هذه التجارة مقابل آلاف الجنيهات، ولكنني رفضت، لا لشيء إلا لإيماني العميق بأن هذا خيانة للوطن، وجريمة أخلاقية لا يمكن أن أكون طرفًا فيها، فضلا إن بيع البحث العلمي لا يختلف عن بيع الأرض، ولا يختلف عن التلاعب بمقدرات الأمة، فالعلم هو أساس النهضة، وحين يتحول إلى سلعة، تكون الكارثة قد وقعت.

إلى الدكتور أيمن عاشور وزير التعليم العالي، إن السكوت على هذه الكارثة لم يعد مقبولًا، والتغاضي عنها ليس إلا مشاركة غير مباشرة في جريمة تهدد مستقبل البحث العلمي، لا بد من تشريعاتٍ حازمة، لا تكتفي بالرقابة الهشة أو التحذيرات النظرية، بل تقطع جذور هذه التجارة، وتُجرم كل من يمارسها، وتُحاسب كل من يُسهّلها، وتضع حدًا لهذا النزيف الذي لا يهدأ، لا بد من إجراءات تعيد التوازن إلى المنظومة العلمية، وتجعل الشهادات تعود إلى قيمتها الحقيقية، فلا تُمنح إلا لمن يستحقها، ولا يحملها إلا من بذل جهدًا حقيقيًا لنيلها.
إن ترك هذه المصانع تنهش جسد الدرسات العليا في الجامعات بلا عقاب، هو بمثابة إعلانٍ رسمي بأننا لم نعد نؤمن بالعلم، وأن المعرفة صارت بضاعة لمن يدفع أكثر، ولكن، إذا كان العلم يُباع، فماذا بقي لنا؟، إن هذه ليست مجرد تجارة رائجة، بل هي خنجر في قلب الوطن، فإذا لم نتحرك الآن، فلن نجد بعد سنوات من يُصلح هذا الخراب.
وللحديث بقية..

search