الخميس، 19 سبتمبر 2024

08:11 م

سلامٌ للعابرين

سلامٌ للعابرين الذين يصنعون فارقًا في حياتنا.. بكلمة أو نظرة.. بابتسامة أو مجاملة لطيفة.. بخدمة بسيطة أو كبيرة.. يمرون مرور الكرام، ولكن أثرهم يبقى بأعماق نفوسنا.

أنا وأنت وهؤلاء قد نكون العابرين في حياة أحدهم، قد يختارنا الله لرسم بسمة على شفاه.. إدخال السرور على قلب.. جبر خاطر مسكين.. مساعدة مكلوم.. أو الطبطبة بيدٍ حانية على من هو في أمسّ الحاجة لها.. فالعابرون هم هدية الرب.

للرزق أنواع كثيرة، من بينها العابرون، فقد تغادر منزلك لقضاء حاجة، حاملًا من الهموم ما يزيد ويفيض عن قدرة تحملك، فيريد الله أن يخفّف عنك بإرسال ملاك عابر، يُضفي ألوانًا مبهجة على يوم عابر في مشوار حياتك.

وأنا أكتب تلك الكلمات، تُطاردني صورة كبيرة لسيدة أظن أنها في الأربعينيات من العمر، شكلها الملائكي لا يزال محفورًا في قلبي - وليس عقلي فقط سريع النسيان- تلك الجميلة التي التقيتها منذ ما يقارب الـ16 شهرًا في مستشفى. كانت الجديّة تظهر على ملامحها خلال التعامل مع متلقي الخدمة، لكن سرعان ما تبدلت الجدية إلى "حنيّة" بمجرد رؤيتي.

كانت الدموع تتساقط من عيني رغمًا عني، فلم أستطع منعها على عكس عادتي، لتسألني حينها هذه العابرة في حياتي "مدام هناء" عن سبب بكائي، فأجبتها أن أمي في الرعاية المركزة.. لم أسرد تفاصيل، ولكن قبلها بدقائق معدودة كنت قد تلقيت اتصالًا يخبرني بسوء حالة والدتي.

بروح مصريّة أصيلة، نهضت "مدام هناء" من مكتبها لإنهاء ما أحتاجه من إجراءات، ولم تكتفِ بذلك بل أخذت مني أوراقًا لتصورها بنفسها بدلًا مني.. توجهت إليها بالشكر ورحلت بعيدًا عنها، لكنها لم ترحل مُطلقًا عن ذاكرتي.

قد يراه البعض موقفًا بسيطًا لا يستحق حتى ذكره، لكن لن يشعر بأهمية مثل ذلك الموقف إلا من يُقدِّر قيمة الأطياب في الحياة، من لم ينفعه الأقربون، أو تذوق مرارة الخذلان وقت شدته.

قد يشعر بأهمية الموقف، كل من التقى بـ"مدام عفاف" التي لو كان الكرسيّ الخاص بها يستطيع الحديث، لصرخ مستغيثًا "ارحميني وقومي شوية.. عاوز ارتاح.. اتحركي وشوفي مصالح الناس"، فكم منّا التقى بمثل "مدام عفاف" التي يُقال عنها "بتوقف المراكب السايرة"!

كثير من العابرين ممن تركوا أثرًا طيبًا في رحلة حياتي، لا تتسع السطور لذكرهم، ولكن لا يمكن عدم الإشارة إلى تلك العجوز التي اصطحبتني من يدي كالطفلة عندما وجدتني أسأل عن طريق ما، لتجعلني أستقل معها "ميكروباص" وتُصّر على دفع الأجرة للسائق، رافضة أن تأخذ مني مليمًا واحدًا قائلة "لا والله.. أنتي زي بنتي"، فمثل تلك السيدة وغيرها قد يصبحون أحيانًا النقطة المضيئة وسط طريق مظلم.

أؤمن جيدًا ألا شيء في هذا الكون الواسع يحدث صدفة أو اعتباطًا، فكل شخص يقع في طريقنا يحمل رسالة وهدفًا ما، حتى الرضيع الذي تحمله أمه ويضحك لك بالصدفة في أي مكان، فالله قد أرسله لك لتّفُك "التكشيرة" وتنظر له مبتسمًا بروح طفل صغير لا يدرى شيئًا عن متاعب الحياة.

إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.. فقد يُهديك الله عابرين للقارات، تنطوي نفوسهم على قدر كافٍ من السلام والجمال، فهناك بالقرب من ميدان التحرير، كنت في طريقي لعملي وبي من الهموم ما يؤرق رأسي ويؤلم قلبي، لأجد برازيلية وزوجها يستوقفاني لسؤالي عن الطريق للمتحف المصري، ثم تركا بصمتهما سريعًا على ملامح وجهي عندما وصفاني بلطف شديد بأني جميلة جدًا، ليمازحني الزوج قائلًا إن الرجل البرازيلي جميل أيضًا في محاولة لمداعبة وإغاظة زوجته، لأتدارك أنا الأمر سريعًا قائلة إن المرأة البرازيلية أيضًا جميلة.. ضحكنا وكلُ منّا مضى في طريقه بمشاعر جميلة.

تلك المواقف أُبرزها لأصحاب القلوب الطيبة الذين يجدون سعادتهم في أبسط الأشياء، فقد تكون أنت العابر في حياة أحدهم، وعليك الاختيار أن تعبر كطيف لا يشعر به أحد، أو أن تترك في قلب أحدهم ضيقًا، أو تصبح ذلك العابر الجميل الذي لا يُنسى.

title

مقالات ذات صلة

search