الأحد، 20 أبريل 2025

07:50 م

حقوق الإنسان بالمنطقة العربية.. قراءة في تقرير ماعت

في عالمٍ تتشابك فيه الحسابات السياسية مع حقوق الأفراد، يأتي التقرير العربي لحقوق الإنسان لعام 2024 الصادر عن مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان ليضع أصابعنا على جرحٍ قديم، جرح الحقوق الذي لا يُشفى إلا بالضمير الحي والإرادة السياسية الصادقة. 

تقريرٌ لم يُصدِّر حلولاً جاهزة، بل كشف الحقائق بأسلوب قاسٍ وواضح، مستعرضًا الواقع العربي البائس بلغة الأرقام، مُسجلًا الانتهاكات التي تتزايد يومًا بعد يوم، وليس الأقوال التي لطالما أُطلقت دون فعل.

معاناة عميقة في اليمن

تتفتح صفحات التقرير على معاناةٍ عميقة في اليمن، حيث الحرب ليست صراعًا بين طرفين فقط، بل تحولت إلى كارثة إنسانية مستمرة، تصيب جميع شرائح المجتمع. الأطفال يُستغلون كوقود للحرب، والمدارس تتحول إلى أطلال، والمساعدات الإنسانية تُحرم من الوصول إلى مستحقيها. 

الوضع في اليمن لم يعد مجرد أزمة نزاع، بل تحول إلى مأساة يومية يصارع فيها المواطنون للحصول على أبسط مقومات الحياة. ليس هناك تمييز بين شيخ وطفل، ولا فرق بين مدني ومقاتل، فالجميع يعاني من التشريد والتدمير الذي يطال الكرامة قبل الممتلكات.

مأساة الشعب السوري

أما في سوريا، فخلال عام 2024 استمرت مأساة الشعب السوري في تدمير كل شيء جميل في هذا البلد، إذ لم تقتصر الانتهاكات على الأجساد، بل امتدت لتطال كل شيء؛ الذاكرة، المكان، والزمان. 

الحياة في سوريا تُقاس بمجازر الحرب والمقابر الجماعية، حيث أصبح المدنيون هدفًا مباشرًا لآلات القتل. الكلمة مغيبة، والحرية مُعتقلة، والكرامة مفقودة. وفي معسكرات الاعتقال، التي يفترض أن تكون مخازن للحقائق، يتم اغتيال الأمل بطريقة ممنهجة. الثورة السورية، التي بدأت من أجل الحرية والكرامة، تحولت إلى صراع طويل أسفر عن مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعتقلين.

فوضى مستمرة في السودان

وفي السودان، يعيش الناس وسط فوضى مستمرة، يختلط فيها القاتل بالمقتول، والمعتقل بالمحرر. النزاع الذي اندلع بين الجيش وقوات الدعم السريع ترك ملايين من النازحين والمشردين في أنحاء السودان، حيث أصبح النزوح الجماعي ظاهرة تتكرر يومًا بعد يوم. لم يعد هناك أمل في عودة إلى حياة مستقرة، إذ تتحول الأراضي التي كانت مليئة بالحياة إلى مناطق شبحية، والمساعدات الإنسانية تأتي متأخرة، فيما الإعلام يُمنع من نقل الحقائق. أما الشعب السوداني، فقد أصبح يشاهد تدمير وطنه على يد من يفترض أنهم حماة هذا الوطن.

 جحيم غزة لا يرحم

وفي غزة، التي تئن تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، يكشف التقرير عن أحد أسوأ أشكال الانتهاك التي يعيشها البشر في العصر الحديث، الحياة في غزة أشبه بجحيم لا يرحم. الحصار المفروض على القطاع منذ سنوات طويلة فاقم من معاناة السكان، حيث يواجه الفلسطينيون في غزة وضعًا إنسانيًا كارثيًا يشمل نقصًا حادًا في الغذاء والدواء، فضلاً عن تدمير البنية التحتية التي أصبحت غير قابلة للإصلاح. 

عمليات القصف المتواصلة، سواء على المدنيين أو المنشآت المدنية، جعلت غزة مكانًا لا يطاق للعيش، حيث الموت يهدد كل شيء من حولهم. الأطفال والشيوخ، المرضى والأصحاء، الجميع في غزة تحت وطأة هذا النزاع الدائم الذي لا ينتهي، والمجتمع الدولي يشاهد بصمت على ما يحدث هناك، دون أن يتحرك لإنهاء هذه المعاناة المستمرة.

 تسرب مدرسي

وفي قطاع التعليم، أشار التقرير أن بعض الدول تُسجل نسب تسرب مدرسي عالية، خصوصًا في المناطق الريفية والمهمّشة. وفي الصحة، تعاني أنظمة الرعاية من تدهور البنى التحتية، ونقص الكوادر، وغياب التخطيط طويل الأمد، والتنمية المستدامة، التي تُرفع شعاراتها في المؤتمرات، تغيب عن الأحياء الفقيرة والمخيمات.
التقرير يلفت أيضًا إلى محورية دور مؤسسات المجتمع المدني، لا كمجرد مراقب، بل كشريك في صياغة السياسات. غير أن هذه المؤسسات كثيرًا ما تواجه تحديات تمويلية، وتضييقات قانونية، بل وشيطنة إعلامية. وفي ظل هذا المناخ، تبقى جهود التوثيق والمناصرة رهينة بمزاج السلطة ودرجة الانفتاح السياسي.
فالتقرير لم يكتفِ بالتوثيق فقط، بل استبطن الأزمات من جذورها، لم يتعامل مع حقوق الإنسان كما لو كانت مسألة ترف، بل جعلها شرطًا للبقاء. ولم يتحدث عن الديمقراطية كما في كتب الأدب، بل دعا إلى الحد الأدنى من العدالة والمسؤولية، وفيما يتعلق بالحقوق الأساسية، أشار التقرير إلى أنه لا يكفي أن تكون هناك اتفاقيات دولية على الورق، بل يجب أن يتم تفعيل هذه الاتفاقيات على أرض الواقع، وأكد أن هناك فجوة عميقة بين ما تُصرح به الحكومات وبين ما تقوم به فعليًا.
 

ومع ذلك، لا يحمل التقرير نبرة يأس. بل يطرح بديلاً؛ أن الإصلاح ممكن إذا ما توفرت الإرادة السياسية، وإذا ما تمت مراجعة القوانين بما يتوافق مع الالتزامات الدولية. ويُشيد التقرير بمبادرات إصلاحية محدودة في بعض البلدان، مثل خطوات نحو تعزيز استقلال القضاء أو دعم حقوق المرأة، لكنه يشدد على أن هذه المبادرات تحتاج إلى استمرارية وتوسيع.

كما لم يحمّل التقرير مسؤولية الانتهاكات على طرف واحد، بل ألقى الضوء على التحديات التي تواجه الحكومات والمجتمع المدني على حد سواء. وفتح المجال للمجتمع الدولي للمشاركة في تحليل الأسباب الكامنة وراء هذه الأزمات. ولكنه، في الوقت ذاته، رفض أن يكون مجرد شاهدٍ صامت، بل أشار إلى أن على الجميع، من حكومات ومؤسسات المجتمع المدني، أن يتحدوا للعمل على تحسين الأوضاع وإنهاء هذا العبث.
ربما لا يغير تقرير واحد من سياسات الدول، ولكنه بلا شك يُحرك المياه الراكدة في بحار النسيان، قد لا يرضي الساسة، لكنه يهز الضمائر، وهذا في حد ذاته يكفي لتأكيد أن كلمة الحق، حتى في زمنٍ يهيمن عليه الصمت، ستظل تجد طريقها إلى النور. فما بين السطور، تبرز دعوة واضحة، وهي أن حقوق الإنسان ليست عبئًا على الاستقرار، بل شرط له، وأن معالجة جذور الفقر، والتمييز، والإقصاء، تمثل طريقًا أكثر فاعلية من كل أشكال القمع والمنع. فالمنطقة العربية لا تعاني من نقص في التشريعات، بل من عجز في الإرادة، ومن انفصام بين الخطاب والممارسة. والتقرير العربي لحقوق الإنسان لعام 2024 ليس صرخة غضب، بل مرآة موضوعة بذكاء أمام واقعٍ لم يعد يمكن تجاهله.
السؤال الآن: من لديه الشجاعة لينظر في هذه المرآة؟

search