الأحد، 08 سبتمبر 2024

06:25 ص

"إمبراطورية ميم" قصة ناصرية وفيلم ساداتي و"مسلسل تائه"

“إمبراطورية ميم” قصة ضمن مجموعة قصصية بعنوان “بنت السلطان” كتبها الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس المحسوب على التيار الناصري عام 1965.

وقتها كان الكتاب وسيلة إعلامية هامة ومقروءة وتصنع التأثير في وجدان الشعب المصري، عبد القدوس كتب هذه المجموعة القصصية في دعم النظام الناصري، إذ تدور جميعها حول محور واحد، هو الحاكم الذي يحب شعبه حتى لو حرمهم في المقابل من الحرية، إذ أن الحرية قد تقود في الغالب إلى الفوضى..

وأكثر من أبرزت هذا المعنى قصة (إمبراطورية ميم) التي كانت تدور حول الأب الذي يسلب حرية أولاده وأحيانًا كرامتهم تحت ذريعة الحب والخوف عليهم، في النهاية يختار الأبناء الاختيار الأفضل من وجهة النظر الناصرية وهو التنازل عن الحرية في نظير حب الوالد والامتنان له على ما قدمه من تضحيات، هو هنا يتحدث جليا عن عبد الناصر الذي يتعين على الشعب ان يحبوه ويمتنوا له بل يدفعوا مقابل تضحياته، حتى لو كان الثمن الحرية والكرامة، والأمر هنا لا يحتاج إلى فراسة كبيرة فاختيار حرف الميم لم يكن اعتباطًا، حرف الميم هو الجمهورية العربية المتحدة..

عام 1971 عندما تمكن الرئيس الراحل أنور السادات من الإطاحة بميراث الحكم الناصري، كان أكثر ما يؤرقه هو استمرار النزعة الناصرية بين طلاب الجامعة، ولأنه كان مغرمًا بالسينما، ويرى أنها سلاحًا فتاكًا ،  أراد أن يستخدم ذات السلاح ليقضي على الفكر الناصري واليسار تمامًا.

أما المخرج الكبير حسين كمال المصنف الأول بين المخرجين المصريين وقتها، مخرج شاب متطور ومتجدد، خاصة بعد النجاح الساحق لفيلم (أبي فوق الشجرة)،  كان صديقًا شخصيًا للرئيس السادات، داعمه الأول في أزمة فيلم (شئ من الخوف) إذ همس البعض في اذن ناصر عن النية السيئة لمخرج الفيلم بينما دافع السادات عن كمال واقترح على ناصر مشاهد العمل قبل تكوين أى موقف، وهكذا أنقذت ماشورة السادات حسين كمال من أزمة حقيقية.

السادات طلب من حسين كمال في لقاء شخصي أن يقدم فيلمًا عن الدولة الجديدة في عصر السادات بكل ما فيها من إصلاحات، وكل مابها من أمور جيدة ستحسن من حياة المواطن المصري،  المدنية والحداثة مميزات الرأسمالية وأضرار الفكر اليساري الذي قد يدمر حياة الناس، نريد فيلمًا يجعل كل مواطن يكره كل ما هو يساري أو ناصري.

كان حسين كمال تجمعه علاقة طيبة مع احسان عبد القدوس وقارئ جيد لكتاباته، منذ فيلم ابي فوق الشجرة، وقرأ المجموعة القصصية بنت السلطان،  ولمعت في ذهنه حكاية إمبراطورية ميم

في واقع الأمر القصة الأصلية كانت قصة عادية سطحية من أضعف ما كتب عبد القدوس، ولم تكن بذات العمق والتفاصيل والشخصيات النابضة بالحياة ليقدم أحد أعظم كلاسيكيات السينما المصرية.

في بداية المشروع كان ينوي كمال تقديم الشخصيات الرئيسية كما جاءت بالقصة،  وكان من المقترح ان يقدم الشخصية الفنان محمود مرسي ، ثم طرحت أسماء أخرى وهي شكري سرحان ورشدي اباظة وأحمد مظهر، ولكن كمال وجد ان تجسيد الحاكم بشخصية رجل قد يأتي بنتائج عكسية فلمعت في ذهنه أن يغير الشخصية الرئيسية إلى شخصية الأم كي يبتذ تعاطف المشاهد، فالأم بالتأكيد تثير التعاطف، فمن الذي لن ينحز إلى أم أرملة تبذل نفسها لأجل أبنائها..

اقتبس حسين كمال الكثير من تكوين شخصياته من رواية (ملك سيام) التي كانت تتشابه في الأحداث مع هذه القصة، مثل شخصية الأم التي كانت تعمل نفس المهنة (مدرسة) وملامح شخصيات الأبناء.

وطرح في البداية اسم الفنانة ماجدة لتقوم بالشخصية وتم استبعادها، لأسباب غير معروفة وتم الاستقرار على الفنانة فاتن حمامة.

أما رسم شخصيات الأبناء فرسم بعناية كي يشوه اليسار بإتقان بداية من  مصطفى الشاب اليساري الذي من خلاله ستكره الفكر اليساري وهو محض شعارات وكلام اجوف سمج، من لا يكره فكرًا  يقلب الأبناء على هذه الأم الحنونة، و شخصيات الأبناء  كلها تعبر عن الحقبة الناصرية: الطفل الذي يحب كرة القدم حتى لو افسدت حياته، البنت المنفتحة حتى يقودها هذا ان تزور شابا في بيته، البنت المتشبهة بالرجال، الولد المنحرف، الشاب الذي يحب الموسيقى الصاخبة، أنها جميعًا ملامح المرحلة الناصرية.

الفيلم الساداتي يتفق مع القصة الناصرية في تشويه ممارسات الديمقراطية،  فيعرض الانتخابات الديمقراطية على أنها محط عبث وهزل، فالسلطة هنا أبدية بحكم الفطرة والنظام الإلهي، ومن حق الأم- أى السلطة- معاقبة أى شخص حتى لو صفعته أحد أبنائها، أو أتلفت الآلة الموسيقية،  أى فعل للأم مشروعا، و بعد مرحلة  تبدأ الأم في منح أبنائها حق بعض الممارسات الديمقراطية مثل تأسيس الأحزاب

في الحقيقة فيلم (إمبراطورية ميم) كان فيلمًا ساداتيًا بامتياز حتى نصل إلى نفس النهاية الناصرية الأصلية، في مشهد هزلي يختار الأبناء سلطة الأم بمحض ايرادتهم، والأم التي هي السلطة لها كل الحقوق حتى لو كانت غير مثالية وعلى الأبناء أو الشعب الرضا والقبول  بل والحب والامتنان للسلطة التى تضحى من أجل الرعية،  والنهاية توضح ذلك جليًا عندما يقترح أحد الأبناء اسمًا جديدًا للأسرة وهو ( اتحاد جمهورية ديمقراطية ميم) فترفض الأم  اي الإسم الذي يلمح لاسم الدولة في العهد الناصر (الجمهورية العربية المتحدة) وتسميها (دنيا  حب) في إشارة إلى نهاية العهد الناصري وبداية حقبة جديدة تكون فيها علاقة الحاكم بشعبه ابدية مبنية على العاكفة وليس الاستحقاقالديمقراطي.

عبقرية حسين كمال هي من صنعت (إمبراطورية ميم) ليكون أحد أهم كلاسيكيات السينما المصرية، فالقيمة هنا أصبحت في العمل السينمائي المتفوق على القصة التي باتت في الخلف بكثير،  فتحول الفيلم الأكثر عمقا هو المصدر الأساسي للفكرة.

وبعيدًا عن القصة الناصرية والفيلم الساداتي، فإن جوهر الحدوته في الأسرة التي تمثل المجتمع بمختلف الشخصيات وما يواجه من تحديات بين الحاكم وشعبه، ما يتناسب مع المرحلة التي قدمت فيها إذ أن الممارسات الديمقراطية في مصر وقتها كانت مسألة جديدة

هذا الجوهر الذي يبقى مهما اختلفت المعالجات والقوالب الفنية لم يعد مناسبا للمجتمع عام 2024 الشعب الذي اعتاد على الممارسات الديمقراطية بكل اشكالها وصورها واصبحت الحريات مسألة راسخة في تكوين الجمهورية الجديدة،


جوهر القصة لا يمكن تغييره وإلا أصبحنا نقدم عملا لا علاقة له باسم إمبراطورية ميم، ويصبح هنا الاسم محض استغلال لنجاح الفيلم، وعلى الرغم من كمية البهجة والقبول لمسلسل امبراطورية ميم،  فجوهر القصة المرتبط بعام 1972، والذي كان يعتبر الممارسات الديمقراطية مشاهد مضحكة لأنها كانت غريبة على المجتمع في هذا التوقيت،  لم  يعد ذلك مناسبًا عام ٢٠١٤ للشعب المصري الجمهورية الجديدة يمارسا كافة استحقاقاته الديمقراطية بكل الأشكال، الحمهورية الجديدة والممارسات الديمقراطية المتعددة، وسائل  الميديا وما بها من حرية تعبير وعلاقة الوالدين بالأبناء،  نضج الشعب والمجتمع والدولة، الحريات غير المسبوقة والوعي والنضج في الجمهورية  الجديدة تجاوز هذا التفكير بمسافات، فأصبح هذا الطرح نشاذا، ولا يمت باصل القصة في شئ سوى الاسم فقط

والغياب الجوهر  نشعر بأن مسلسل إمبراطورية ميم (عمل تائه) يستخدم نفس مفردات القصة وبعض التفاصيل من الفيلم، ولكن بلا أساس، حتى شخصيات العمل الأصلية والتي كانت غريبة في وقت الفيلم (البنت المسترجلة، الولد الثائر) كلها باتت مألوفة في المجتمع ولم تعد غريبة أو مرفوضة كما كان في السبعينات.

فلأساس غائب أو لم يعد موجودًا، ولأن قماشة العمل أصلًا غير ثرية، فيلجأ هنا الكاتب إلى بعض الحشوات الدرامية، وشخصيات فقيرة بلا تفاصيل بها مثل شخصية العمة والخال أو المدرسة، التي أبعدتنا تمامًا  عن ماهية الموضوع، ما أوقعه في فخ التكرار، وفي محاولة لإيجاد تماس مع القصة الأصلية، يلجأ أحيانا لبعض الاقتباسات من الحوار الأصلي الذي يعود إلى السبعينات، فيتحول الأمر إلى نشاذ

حاول المؤلف أن يخلق صراعًا جديدًا لمحاولة في إثراء الأحداث، من خلال المقاول الذي يرغب في الاستيلاء على منازل المنطقة بالترغيب والترهيب ودفع مبالغ خيالية لشخصية مختار بالذات دون غيره من الجيران، في اسقاط للعدو الخارجة الذي يهدد الأسرة،  لا بأس ولكنه طرح مستهلك، وسطحي، ومقدم بشكل خارج المنطق، ومبالغات ساذجة،  فكيف لشركة خاصة ان تعبث بحياة المواطنين بهذا الشكل وكأننا بلا دولة،

ولا بأس من أن يعاد صياغة الجوهر مرة أخرى، لكن فيما يناسب مفردات يعبر عن المرحلة الراهنة والجمهورية الجديدة، أو كان من الممكن كتابة مسلسل جديد بهذه الأحداث لا يحمل اسم إمبراطورية ميم.

title

مقالات ذات صلة

search