الجمعة، 22 نوفمبر 2024

08:54 ص

حسين القاضي
A A

خطورة تمدد النَّفسِيَّات المُحتَقَنَة

النفسية المحتقنة إذا تمددت تكون هي الخطر الأكبر لزعزعة الوطن ونشر التطرف والإرهاب، وقد اختلفت موجة الإرهاب في السبعينيات والثمانينيات عن الموجة الحالية، من حيث عدم اعتماد المتطرف على بنية فكرية، أو على التواصل المباشر، وبات الاستقطاب اليوم يعتمد على اجتذاب النفسية المحتقنة والمنفجرة، واختُزلت مدة التجنيد، ولم يعد المتطرف اليوم في حاجة إلى حوارات ومجادلات فكرية، وليس أدل على ذلك من أن الإرهابي عبد الرحيم المسماري، اعترف بأنه انضم إلى "داعش"، لمجرد سماعه نشيدا ثوريا.

وتتعدد أسباب خلق النفسية المحتقنة المنفجرة، فلنأخذ قضية تخفيف أحمال الكهرباء نموذجا، فأزمة الكهرباء أزمة عالمية، وحلها الجذري فوق طاقة الحكومة، ولكن كيفية إدارة الأزمة قد يكون سببا كافيا لخلق نفسية محتقنة، من تخفيف الأحمال إلى 3 ساعات لمدة يومين، ثم 3 ساعات لآخر الأسبوع، ثم لآخر الشهر، ثم انقطاع الكهرباء في غير المواعيد المحددة، ثم تخفيف الأحمال عن محافظات بلغت درجة الحرارة فيها 47 درجة، ثم عدم الاستعداد لموسم امتحانات الثانوية العامة، ثم انقطاع الكهرباء لمدة 8 ساعات في بعض القرى، وما يترتب على هذا التخبط في إدارة الأزمة من مشكلات لا حصر لها، ثم انتظار تدخل الرئيس شخصيا لوضع الحلول..إلخ، هذا الأمر يسبب احتقانا نفسيا تجاه الحكومة، ويمكن استغلاله تراكميا أو انفراديا لتحويله لاحتقان تجاه الوطن نفسه، والسبب هنا هو التخبط في إدارة الأزمة.

ولذلك فإن ضياع الحقوق، والعدالة غير الناجزة، والتخبط في إدارة الأزمات، والبيروقراطية التي تعطل المصالح اليومية للمواطن، والوظائف التي تتم عن طريق الوساطة والمحسوبية، كل ذلك له تأثير في خلق نفسية محتقنة يسهل توظيفها نحو التطرف ونبذ الوطن بأسرع مائة مرة من لو أن الشخص مكث شهورا يدرس كتب سيد قطب أو كتب داعش والقاعدة.

وفي ضوء المتغيرات الجديدة التي لحقت بالظاهرة يجب الاهتمام بالبعد النفسي كأولوية مهمة، لا سيما مع نجاح التنظيمات المتطرفة في استقطاب النفسية الثائرة المحتقنة من الأوضاع الاقتصادية والسياسية والتعليمية، فالشخص يشعر نفسيا بأن وجوده على المحك، وأن المستقبل لن يكون له ولأبنائه، فينعكس ذلك على خلق حالة نفسية محتقنة، يتخذ من خلالها مواقف حادة، وممارسات متشددة أو عنيفة، تحفظ له -من وجهة نظره- وجوده ومستقبله وآخرته، وهذه الحالة هي التي تعمل عليها جماعات التطرف.

وقد توصلت دراسة منشورة إلى أن تجربة قام بها عدد من الباحثين في عام 2012 تضمنت تعريض مجموعة من المتشددين لسلسلة من الصور الإيجابية والسلبية على شاشة كمبيوتر مع تسجيل حركات أعينهم؛ اتّجه (المتشددون) إلى تأمل الصور المهددة والمزعجة، مثل حطام السيارات والإصابات وغيرها، وهو ما يطلق عليه علماء النفس اسم "التحيز السلبي"، الذي يقوم على أنه عندما ينحاز الانتباه نحو الجانب السلبي، تكون النتيجة تقييمًا مفرطا للتهديد، والنظر إلى العالم بوصفه مكانًا مخيفا للغاية.

يضاف إلى ذلك أن لافتات الاستفزاز اليومي من الإعلام أو السياسيين أو رجال الدين، تخلق حالة من الاغتراب تؤدي إلى شحن نفسي، تسبب انحرافه نحو التفسير الأحادي، وقبوله للصدام، والانقياد لأي فكرة حماسية، ولهذ فإن التعامل مع ظاهرة التطرف تعاملا منفصلا عن الواقع الاقتصادي والسياسي وإدارة الأزمات يؤدي إلى فشل المقاربات المقدمة في هذا الاتجاه.

وللمرحوم الدكتور شاكر عبد الحميد دراسة مهمة بعنوان: (التفسير النفسي للتطرف والإرهاب)، خلص فيها إلى وجود تفسيرات تقول إن الاستجابات المتطرفة تزيد كلما شعر الفرد بالهامشية والتهديد، وتحدث عن نظرية العزو ( Attribution Theory) التي تُرجع أسباب الفشل أو الرسوب أو التأخر أو صعوبات الحياة إلى أسباب خارجية، بمعنى أنه رسب وفشل بسبب (الحظ – القدر – النصيب- عدم كفاءته)؟ أم بسبب (المحسوبية – المجاملة – الوساطة- العلاقات- المعارف)؟ وحسب الاعتقاد تتكون مشاعره واتجاهاته وسلوكياته، فإذا كان المجتمع يعاني من (المحسوبية – المجاملة – الوساطة-)، فإن ذلك يخلق سلوكيات واتجاهات محفزة للتطرف والعنف.

فالتطرف عبارة عن شحنات انفعالية، والأوضاع المأزومة تخلق نفسية محتقنة، وشحنة صدامية لابد من تفريغها، فيبحث الشخص عن متنفس عما في داخله، وذكرت دراسة في مجلة (قضايا التطرف)، عنوانها: (أبعاد التهيئة النفسية المعززة لممارسة السلوك الإرهابي) من أن السلوك المتطرف يعتبر عملية تفريغ سلوكي لتلك الشحنات بشكل خاطىء، ويكون السلوك الخاطىء تنفسيا عن مشاعر مكبوتة، ويتم توظيف صاحب النفسية المحتقنة لصالح جماعات التطرف، وهنا لا تلومن إلا أنفسكم.

search