السبت، 06 يوليو 2024

09:04 م

السِّيرة النبوّية ليست حروبًا وغزوات


    مما يؤسف أن خطابنا الديني لم ير في السيرة النبوية إلا القتال والغزوات والحروب والقراءة العسكرية للسيرة النبوية، فحدث إغراق في قراءة السيرة بمنظور سياسي تنظيمي ضيق، ومن ثَمَّ حُرم المسلمون من استشعار الأبعاد الحضارية وسنن الحضارة والبناء، حتى باتت هذه السنن مهجورة متروكة، ساعد على ذلك أن جماعات التطرف الديني طغت عليها القراءة العسكرية للسيرة النبوية، حتى يسهل لها التجنيد والتعبئة من خلال ذلك.
إن من تعاملوا مع السيرة على أنها غزوات وحروب فقط، حرموا المسلمين من سنة التعارف والتعايش والتفكر والنصح والجمال والإتقان والحضارة، وهناك كتاب مهم عنوانه: (محاولة في تحرير السيرة النبوية من القراءة الدينية التنظيمية) تأليف: رشا عبد الواحد إبراهيم، وحمدي رزق حمادة، ومحمد عبد العال عيسى، عمل الكتاب على تنقية وتحرير السيرة من القراءة الضيقة، والتأكيد على أن السيرة ليست هي الغزوات والحروب.
   وللإمام السبكي كلمة عظيمة في هذا المعنى، حيث قال: "صلح الحديبية أنفع للمسلمين من كل الغزوات، لأنه أُتيح فيه لغير المسلمين أن يختلطوا بالمسلمين ويعرفوا أخلاقهم"، ولأجل هذه سمى الله صلح الحديبية "فتحًا"، بل إن الغزوات لم تأخذ من تاريخ الإسلام إلا جزءا، وبقي تاريخ الإسلام الأكبر: عمران وحضارة وبناء ونهضة.
وفي كتابه: (تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية)، للعلامة "علي بن محمد بن سعود الخُزاعي" جمع ما كان في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صنائع وحرف ومهن، وهي مقومات النهضة، وتناول مهنة: المؤذنين، والسقاء، وإمارة الحج، وحامل الكتاب، والمترجمين، وكاتب الجيش، وكاتب الديوان، والمحاسب، وصاحب المظالم، وكاتب الشروط والوثائق والعقود، وفارض المواريث، والبَنَّاء، ومتولي الصدقة، والطباخ، وغير ذلك.
ومن المهن التي كانت في عهد النبوة: مهنة البزاز، أي تاجر الملابس، وقد اشتغل بها عثمان بن عفان، ومهنة بائع العطور، حتى إن البخاري في صحيحه جعل بابا بعنوان: (العطار وبيع المسك)، ومهنة بائع الذهب والفضة، وبيع الرماح، والدباغ، والمعلمين، والفقهاء، والقادة، وعمال الكهرباء، وعمال المساجد، وخبراء الحروب، والبريد، والمصلحين بين الناس، والشعراء، والقضاة، والجراحين، وحفَّار الطرق والخنادق، والمزارعين، والحدادين، والنساجين، والخياطين، والنجارين، والدباغين، والصيادين والمغنيين، وانتشر المغنون في عهده، سواء الذين يغنون في المناسبات، أو كانوا يغنون لقدوم الرسول من سفره.
وفي كتاب: (التراتيب الإدارية في العمالات والصناعات والمتاجر والحالة العلمية التي كانت في عهد تأسيس المدينة المنورة) للعلامة "محمد عبد الحي الكتاني"، وضع عنوانا اسمه: (ذكر أسماء المغنيات في المدينة في العهد النبوي)، بل التقدم بدأ إبان العهد النبوي الشريف، وليس الأموي والعباسي.
إن السيرة فيها البناء والعمران والتنمية والنهضة وقيم التسامح والعفو والرحمة، وفنون الإدارة، والتدافع الحضاري، وطرق النهضة، وتنمية المواهب، واحترام الزمن، والإفادة منه، واتخاذ الوسائل، وإدراك الواقع، والاستفادة من السنن الكونية، وعمارة الأرض، أما حصرها في الغزوات والحروب والقتال فقط، فخطأ كبير.

أخبار متعلقة

search