الجمعة، 22 نوفمبر 2024

07:56 ص

حسين القاضي
A A

الخلافة.. طاقات هائلة وراء متخيل وهمي

مئة عام مرت على سقوط الخلافة، التي هي عبارة عن نظام إداري، وكانت فيه فترة الخلافة الراشدة، ومدتها 30 سنة، وقد انقضت، وفي الحديث الشريف: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، وما بعد هذه الفترات سميت خلافة، باعتبار الاسم فقط، كأن يأتي حاكم الآن ويسمي طريقة حكمه (خلافة)، وتجربة الخلافة تباينت آلياتها وأسلوبها وحدث اشتباك مجتهدين بين الخلفاء، ليكون شاهدا على أن الأمر غير متعلق بالبعد العقدي أو الوحي، بقدر ما هو متعلق بالاجتهاد، فلا خلط بين السياسة وهي توفيقية ونسبية وقابلة للاجتهاد، وبين العقيدة وهي ثابتة.

وقد شاع  مصطلح "الخلافة) وانتشر في أدبيات الحركات الإسلامية، وتشوشت الرؤية، وغابت أصول وقواعد النظرة الشرعية إلى المجال السياسي، وإلى طبيعة السلطة، وغابت النظرة الصحيحة لمفهوم الدولة الإسلامية، وعلماء المسلمين كالشاطبي والغزالي والجويني يقسمون مجالات عمل الإنسان إلى: (عبادات)، ومجال (عادات)، والتمييز بينهما جعله الإمام الشاطبي من مقاصد الشريعة، فقال في كتاب (الموافقات): "من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات"، هذه التفرقة التي عليها علماء المسلمين ذات تأثير كبير في فهم الدين، ومن أخطر مداخل التشدد والجمود عدم الانتباه لهذه التفرقة، وهو ما وقعت فيه الحركات الإسلامية.

ومن هذا نتأكد أنه لا يوجد نظام سياسي واحد ومحدد دعا إليه الإسلام، فالسياسة في الإسلام مجال مفوض للاجتهاد البشري، لم يطالبنا الإسلام -كما تعتقد حركات الإسلام السياسي- بالبحث عن سند شرعي من النصوص عند أي إجراء جديد تتخذه الدولة، فليس من المنطقي شرعا السؤال عن الدليل على جواز العمل أو الإجراء السياسي،  بل إن مقتضيات الشرع أن نقول للسائل: ما دليلك على المنع، وإن لم تأت بدليل على المنع، فالإجراء جائز من حيث المبدأ.

ليس في الإسلام شكل محدد لبناء الدولة ووظائفها، ومن ثم فالحديث أو السعي أو ضياع العمر والمستقبل من أجل البحث عن وجود "نظام سياسي محدد في الإسلام" مجاف للحقيقة والواقع والشرع، وهذا لا يعني خلو السياسة من أي قيد شرعي، بل يطلب من المسلمين مقاصد ومبادىء عامة يمكنهم الالتزام بها في المجال السياسي.

الدكتور سعد الدين العثماني أحد قيادات حزب العدالة والتنمية بالمغرب، وأحد مفكري الإخوان قاد مراجعات فكرية تناول هذه المسألة في دراسة مهمة، عنوانها: (الدولة الإسلامية ..المفهوم والإمكان)، قرر أن السياسة من أمور العادات التي يبحث فيها المسلم عن المصلحة في ضوء مقاصد الشرع، وليس من أمور العبادات، التي يلتزم فيها المسلم حرفيا بكل كبيرة وصغيرة، ويسوق عددا من الأدلة المختلفة والقوية على أن تصرفات الرسول السياسية هي تصرفات دنيوية اجتهادية، لا يلزم اتباعها بالنص، وأن لشهاب الدين القرافي المتوفى 684 ه، كتاب خصصه لهذا المعنى، عنوانه (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام)، يذكر فيه أن "القضاء يعتمد الحجاج، والفتيا تعتمد الأدلة، والإمامة (السياسة والحكم) تعتمد المصلحة الراجحة"، وابن القيم له كتاب (الطرق الحكمية)، أورد فيه نماذح من تصرفات النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، أوضح خطأ من يعتبرها تشريعا.

والعثماني فرق بين الأمة السياسية التي تتكون من أشخاص يجمعهم وطن واحد، ولو كانوا متفرقين في العقائد والانتماءات، وبين الأمة الدينية، التي يجمع أفرادها رابطة الإخوة الدينية والعقدية، والخلط بينهما يؤدي إلى خلل في فهم الإسلام وتشريعاته ومقاصده، وعليه فإن إقامة الدولة حين تصبح الشغل الشاغل والغاية القصوى للتنظيمات فإن هذا يصبح وضعا للأمور في غير نصابها، وتجنيد الطاقات لتحقيق متخيل وطرح فراغي. 

لم يشترط  الإسلام لوجود الدولة إطارا سياسيا أو تنظيميا معينا، ولم يأت الإسلام ليصل إلى الحكم، ثم يتمكن من مفاصل الدولة، ثم يحمل الناس على أحكامه وتشريعاته كما تفعل التنظيمات الإسلامية، فالدولة بنت المجتمع، وليس المجتمع هو ابن الدولة، والمجتمع بكل مكوناته هو الذي ينتج الدولة ويحدد ملامحها وتوجهاتها وهويتها، ومصطلح الدولة الإسلامية مستساغ لو كان مقصوده الدولة التي تحوي أكثرية مسلمين، ويختار العثماني إطلاق اسم "دولة مقبولة إسلاميا"، مثلما نقول عن ممارسي التجارة بحكم كونهم مسلمين يلتزمون بأحكام الشرع في معاملاتهم، لكننا لا نقول "تجارة إسلامية".

 كما أن المجتمعات تُدار بالحكم ولكن لا تتغير به، والسياسة منها سياسة عادلة ومنها ظالمة، والمسلمون يسعون لإقامة السياسة العادلة، وذلك بإصلاح أنفسهم ومجتمعاتهم وسياساتهم وقوانينهم، ولم يقل واحد إن الحكم من أصول العقيدة إلا حسن البنا، وتبعه سيد قطب، وجاء زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في كتابه "إعزاز راية الإسلام"، بنقولات من سيد قطب، لينطلق من فكرة الحاكمية فيكفر المجتمع والحكام، وأضحت الحاكمية هي الجذر الذي تأسست عليها مفاهيم التيارات الإسلامية، ونبع منها التكفير والبحث عن المتخيل مستحيل الوقوع.

search