الإثنين، 16 سبتمبر 2024

12:39 ص

وأد للأمومة.. نساء يخرسن صرخات الأطفال بـ"ربط الأنابيب"

اللا إنجابيون - تعبيرية

اللا إنجابيون - تعبيرية

منى الصاوي

A A

بيت قديم في منطقة شعبية، سُلَّم متعرج وضيق لا يتسع لشخصين معًا. صعدت "شيماء. م" إلى عيادة طبيب النساء التي أوصت بها إحدى صديقاتها.

العيادة مكوّنة من غرفتين وصالة أشبه بـ"علبة الكبريت" من ضيق المساحة، وثلاثة كراسٍ فقط تجلس عليها سيدات في مراحل عمرية مختلفة، وقد جئن أيضًا لأسباب مختلفة، كلها "غير مشروعة".

العيادة المرعبة

على مكتب الاستقبال تجلس امرأة بوجه عابس، ترتدي خمارًا وعباءة سوداء، لم تعرف الابتسامة طريق شفتيها قط، وبصوتها الغليظ تنادي على زبوناتها: "الأستاذة شيماء.. اتفضلي"، لتدخل الأخيرة وهي تجر قدميها من شدة الخفقان والخوف.

على المكتب، يجلس الطبيب الستيني، المتصابي على حد وصف شيماء التي جلست على الكرسي المقابل له، قبل أن يسألها: 

*متزوجة ولا بنت؟
- متزوجة من 5 شهور.
* خير يا شيماء.. بتشتكي من إيه قولي ماتخافيش؟
- “أنا عاوزة أعقّم نفسي من غير ما جوزي يعرف”.

اطمأنت شيماء نسبيًا، وبدأت تروي حكايتها للطبيب: “تزوجته رغمًا عني، لا أطيق معاشرته، رائحته منفرة، جسده الممتلئ بالشحوم والدهون والشعر الكثيف يجعل منه شخصًا مزعجًا، كرشه المدلدل بيكتم نفسي، ويكبرني بـ30 عامًا”.
وأضافت: "مش متخيّلة إني أخلف عيل شبهه، أنا بحلم باليوم اللي اتطلق فيه ومش عاوزة حاجة تربطني بالشخص دا".
رد عليها الطبيب: "ممكن نعمل عملية ربط أنابيب، دا أفضل حل".
وبالفعل، وأدت شيماء أمومتها بمستشفى اختارها الطبيب، بينما كان زوجها يؤدي مناسك العمرة، ويتضرع لإنجاب ولدٍ يحمل اسمه.

لا إنجابية

روت شيماء حكايتها لـ"تليجراف مصر"، وأكدت أنها تؤمن تمامًا بفكرة "اللا إنجابية"، مبررة فعلتها هذه بخوفها من تكرار تجربتها مع أهلها في ظل الفقر المدقع والجهل المتفشي في أسرتها.
لم تكن شيماء وحدها هي من انتهجت فكرة "اللا إنجابية"، بل سبقها مئات الفتيات ولحقتها مئات أخريات.
الفكرة غير مقتصرة فقط على العنصر النسائي، بل شملت أيضًا قطاعًا عريضًا من الرجال.

جانب من منشورات اللا إنجابيين على مواقع التواصل

غريزة فطرية

"لطالما اعتقدتُ أن الأمومة غريزة فطرية وعاطفة جياشة، لكن بمرور الوقت، أدركت أنها ليست كذلك بالنسبة لي، لا أشعر بأي ميل نحو الأمومة"، هكذا عبرت فتاة أخرى مؤمنة بالفكرة نفسها تُدعى دعاء سلامة.

تستنكر دعاء بشدة الأعراف والتقاليد المجتمعية التي تعتبر الزواج والإنجاب هدفًا رئيسيًا في الحياة، وتشعر بالضيق من نظرة المجتمع السلبية إلى الأشخاص "اللا إنجابيين"، على الرغم من أنهم لا يرتكبون أي خطأ أو جريمة، بحسب وصفها.

أفكار مستنكرة

وتشير إلى أن هؤلاء الأفراد يواجهون صعوبات في محيطهم الاجتماعي، حيث يجدون صعوبة في شرح أفكارهم التي غالبًا ما يعتبرها المجتمع "شاذة وغربية".
توضح دعاء أن الأشخاص "اللا إنجابيين" لديهم أسباب متنوعة لاختيارهم عدم الإنجاب، منها الاعتبارات الأخلاقية، إذ يرى بعضهم أن إنجاب الأطفال في عالم مليء بالمعاناة والتحديات أمر غير أخلاقي، فضلًا عن الظروف المادية والمعيشية التي لا تسمح للزوجين بتوفير حياة كريمة لطفل.

حياة كريمة

لم تنكر الفتاة الثلاثينية رغبتها في إيجاد شريك حياة يتفهم أفكارها وقرارها بعدم الإنجاب، خاصة في مجتمع يضع ضغوطًا كبيرة على الأفراد لتكوين أسرة وإنجاب الأطفال، مؤكدة أنها تتواصل مع آلاف من الناس يتبنون الفكرة ذاتها، عن طريق "جروبات" على مواقع التواصل الاجتماعي، من بينها جروب “ضد التناسل”، و"تجمع اللا إنجابية"، و"لا إنجابي" و"متخلفش".

الأمم المتحدة تحذر

وحذّرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) من أن قرابة 400 مليون طفل دون سن الخامسة، أي ما يعادل 60% من الأطفال في هذه الفئة العمرية، يتعرضون للعنف النفسي أو العقاب الجسدي في منازلهم بشكل منتظم.

فنانون قرروا عدم الإنجاب

الفكرة ليست جديدة، إذ كشف الفنان الراحل عبد السلام النابلسي موقفه الرافض لفكرة الإنجاب في لقاء تلفزيوني، وعلى الرغم من حبه للأطفال، فإنه وصف الإنجاب بأنه "مشكلة"، معربًا عن تعاطفه مع كل منْ يختار أن ينجب أطفالًا في هذا العالم المليء بالهموم والتحديات.

وذهب النابلسي إلى أن إنجاب طفل جديد بمثابة إضافة "همٍ جديد" إلى العالم. ويبدو أن أفكار النابلسي تلك انتقلت إلى الفنانات إلهام شاهين، وسلوى خطاب، ومنى هلا، اللواتي قررن عدم الإنجاب لظروف مختلفة.

منشورات تدعم الفكرة 

الشعور بالأمان

أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، الدكتورة عزة فتحي، أرجعت تنامي ظاهرة "اللا إنجابية" في المجتمع إلى أسباب عِدة، أبرزها غياب الشعور بالأمان النفسي والمجتمعي لدى الشباب، فضلًا عن الحالة الاقتصادية الصعبة.
وتوضح أن هؤلاء الشباب يفضلون عدم التقيُّد بأي روابط أو قيود أسرية، ويرغبون في العيش دون إنجاب أطفال نتيجة عدم قدرتهم على تحمل المسؤولية، بسبب التربية في أسر مفككة.

أسر مشوهة

وتشير فتحي إلى أن تزايد هذه الظاهرة قد يؤدي إلى أضرار اجتماعية جسيمة، منها خلق "أسر مشوّهة" غير قادرة على الاندماج الكامل في المجتمع، وتؤكد أن هذه المشكلات الفردية تنعكس سلبًا على المجتمع ككل في نهاية المطاف.
وتشدّد أستاذة علم الاجتماع، على ضرورة تعديل الخطاب الديني والثقافي والاجتماعي لإعادة الاعتبار لقيمة الأسرة، لا سيما مع ارتفاع معدلات الطلاق وعزوف آخرين عن الزواج.
وتؤكد أن المأساة التي يعيشها أطفال العالم لا سيما في فلسطين والدول التي تشهد صراعات أدت إلى تنامي الظاهرة.

الخطاب الديني

فيما أكد أستاذ الطب النفسي، الدكتور جمال فرويز، ضرورة تجديد الخطابين الديني والثقافي لمواجهة الأفكار التي وصفها بـ"الدخيلة على المجتمع"، وهو ما يتفق مع رأي الدكتورة عزة فتحي.
وأضاف فرويز أن هذه الأفكار، وإن كانت لا ترقى بعد إلى مستوى "الظاهرة"، فإنها بدأت تنتشر بشكل ملحوظ في المجتمع.

أزمات نفسية

وأشار إلى أن بعض "اللا إنجابيين" يعانون أمراضًا نفسية، مثل الشخصية الاعتمادية التي تخشى تحمل المسؤولية، ويرون أن إنجاب الأطفال سيكون عبئًا عليهم، ولا يرغبون في إنجاب طفل يعاني في هذا العالم.
وتابع: "بعض الأشخاص الذين يختارون عدم الإنجاب يعانون ميولًا انتحارية بسبب شعورهم بالاكتئاب والوحدة، خاصة في ظل رفض المجتمع لأفكارهم".
وأوضح فرويز، أن أغلب "اللا إنجابيين" لديهم مشكلات تتعلق بفكرة الإيمان والمعتقدات الدينية.

في وقت كشفت بيانات صادمة من منظمة الصحة العالمية أن واحدًا من كل طفلين في العالم يعاني أحد أشكال العنف، سواء كان جسديًا، أو لفظيًا، أو عاطفيًا، أو جنسيًا، أو حتى عبر الإنترنت. 

إجراء آمن

وتقول استشاري أمراض النساء والتوليد، الدكتورة شادية عبد السلام: "يعتبر ربط الأنابيب إجراءً جراحيًا نهائيًا لمنع الحمل، يتم خلاله غلق أو قطع قناتي فالوب لمنع وصول البويضة إلى الرحم وتخصيبها بالحيوانات المنوية.
وتوضح أن هناك عدة طرق لإجراء هذه العملية، منها وضع حلقة بلاستيكية أو كبسة معدنية على قناتي فالوب، أو الكي، وفي بعض الحالات يتم قطع جزء من القنوات.
وتشير إلى أن عملية ربط الأنابيب تعتبر إجراءً آمنًا وفعالًا لمنع الحمل بشكل دائم، على عكس وسائل منع الحمل الأخرى التي تسمح بحدوث الحمل بمجرد التوقف عن استخدامها. 

وتؤكد استشاري أمراض النساء، أنه في حالة رغبة المرأة في الحمل بعد إجراء ربط الأنابيب، فإن الخيار الوحيد المتاح هو اللجوء إلى تقنية الإخصاب في المختبر (الحقن المجهري)، لافتة إلى أن هناك مشاكل صحية نادرة يمكن أن تسببها عملية ربط الأنابيب، مثل ظهور دوالي الرحم، خاصة إذا كانت المرأة لا تزال في سن صغيرة، الأمر الذي يمكن أن يسبب نزيفًا.

حرام شرعًا

من جانبها، أكدت دار الإفتاء المصرية في فتوى سابقة أن عملية ربط المبايض، التي تؤدي إلى منع الإنجاب بشكل دائم، تعتبر حرام شرعًا، لأنها تعد قطعًا للنسل الذي أمر الإسلام بالمحافظة عليه، وجعله إحدى الضرورات الخمس التي جاءت بها جميع الشرائع السماوية.

ومع ذلك، أوضحت الدار أنه يجوز إجراء هذه العملية في حالات الضرورة، كأن يُخشى على حياة المرأة من الهلاك أو على صحتها من التدهور إذا حدث حمل مستقبلًا، أو في حالة وجود مرض وراثي يُخشى انتقاله للجنين، بشرط ألا تصلح معها أي وسيلة أخرى لمنع الحمل، وأن يقرر ذلك طبيب ثقة مختص.

وأشارت الإفتاء إلى أن العلماء أجمعوا على تحريم تعاطي أي شيء يقطع النسل بشكل مطلق، إلا في حالات الضرورة، بينما أجازوا استخدام بعض الأدوية لتأخير الحمل إذا كان هناك عذر شرعي، مثل تربية الأولاد أو غير ذلك.

search