الأربعاء، 18 سبتمبر 2024

11:16 م

أحمد حسن

أحمد حسن   -  

A A

حبيبي الذي علمني شرب السجائر

ظللت نحو عشرين عاما أعاني من تساقط الشعر وضعف النظر كان السبب ليس الصلع الوراثي ولا الرمد الربيعي بل كانت "أم محمود" جارتنا التي تسكن الدور الأرضي  شباكها ذو فتحتين، الأولى تطل على السلم والثانية على الشارع، هذا كان يعينها على أن تبيت "للسقطة واللقطة" عيناها ثاقبتان تستطيعان عرقلة بطل كمال أجسام أو تمزيق فستان بنت جميلة أو تدمير طائرة مسيرة في حال أعجبتها كانت لا تعرف معنى كلمة "ما شاء الله"
حتى مررت مع أمي بيد كانت تحمل مصاصة ويدا كنت أحاول التشبث بها في عباءتها لأن خطواتها سريعة..
لم تكتفِ أم محمود بالتحديق.. 
قالت
- حمدالله ع السلامة يام أحمد، أهو أحمد ده مفهوش غير "شعر وعينين" بس يلا كل شيء قسمة ونصيب
كانت أمي على نياتها استقبلت ثناءها على شعري وعيناي وشعرت باستحسان كلماتها، لم تكن تعلم أن عين أم محمود مني، كأنها تمنت أن تلد طفلًا ذا شعر أسود طويل وناعم وعينين تزعم أن لونهما مميز "بنيّة كعيون غزال صغير"..
أم محمود كانت تتولى أمر طفل يتيم يسكن مع عمته في آخر الشارع، تدفع له مصاريف الدروس وتهديه ثياباً أنيقة كل صيف وشتاء كأنها تكسوه بألوان الفصول، تتشاجر بالنيابة عنه إذا قرر أولاد شارعنا مضايقته وتشتري له مصاصة قبل أن تهدد عمته بالقتل لو اشتكى منها
تتعاقد مع الطباخين لإتمام إطعام الأسبوع الأول من رمضان
أم محمود كانت لا تكذب ولا تخون العيش والملح
وتكتم سر شربي للسجائر بعد منتصف الليل
حين كبرت افتقدت هذه السيدة، لم ألتق منذ زمن بشخص يحمل عيبا يختبئ وسط هذا البهاء، كشوكة داخل بستان من الزهور


لكنني قابلت صديقة عيونها واسعة بنّية كغزال صغير، شعرها أسود ناعم وطويل، واسمها يقلّب عليَّ المواجع 
كان استقبالها حارًا
- سألتني، رايح فين ؟
تظاهرت بأني شخصية مهمة رغم الهالات السوداء تحت عيني ونبرة صوتي ذات الحزن الدفين
- قلت بهدوء متكلف أن لدي مشوار ضروري لابد إنجازه 
أصرت بعفوية أن تكرمني بمشروب آيس كوفي وحلوى الدوناتس 
جاء طلبنا، خلَعت سماعات الإير بودز وأخذَت رشفة من الآيس كوفي وابتسَمت 
- قالت
هتفضل ساكت كده كتير؟ 
- قلت
لا أعلم لكنني استقيظت صباح أمس لا أصدق حقيقة جملة “كل شيء قسمة ونصيب” كيف يمكنني اعتبار أن كل ما يحدث معي جزء من قدري لا يمكنني تغييره أو تجنبه 
شربي للسجائر ليس قسمة ونصيب كان "كشك عم رمضان" السبب إذ نشتري أربع سجائر لكل منا اثنتان من النوع الرديئ الذي يسبب الكحة والشعور بالدوخة واثنتان من النوع الفاخر الخفيف على الصدر ونمضي إلى المدرسة، كنا نضطر دفع جزية الوصول متأخرين سيجارة، ودفع رشوة الهروب بعد الحصة الثانية سيجارة أخرى، ما كان يستنزف مصروفنا ولا يمكننا ركوب تاكسي، نضطر للمشي حتى نجد ميكروباص "على قد فلوسنا" نعرف السائق جيدًا كان يتأمل فينا خيراً أن نتقدم لاختبارات "التِّباعة" لينتقي منا من يستحق أن يكون "تبّاع" مظهرنا اللائق سيجذب الركاب لا محالة، لن يشك أحد في حقيقة أننا نشرب السجائر ونستخدم الرشوة في تسهيل أمورنا 
يكافئنا في كل مرة نركب معه بسجارة لكل منّا، كان نزيهًا لا يهمه شيء، ذات مرة اضطر لإزالة مشاعره مع طلاء سيارته وقرر أن يدوس على قلبه كما يدوس على دواسة البنزين، فأصبح آلة توصل الناس من مكان لآخر مقابل المال، مرتزقة يعمل بالحلال، مجردًا من كل مشاعره
أحد الركاب، شاب قد دَفن والده صباح الأمس، سرادق العزاء كان بالقرب من منزلنا، أثناء انغماره في حزنه وصمته قرر السائق تشغيل الكاسيت على أعلى صوت حتى سمعنا كوبليه "طارق الشيخ"

من ضعفي قدامك
أنا قلبي خدامك
تجرحني بكلامك 
وانا هرضى واتحمل 
قررت التدخل لوقف نزيف المشاعر والدموع 
قلت بعدم مبالاة مراهق أهوج
- يسطى محسن وطي شوية معانا واحد أبوه ميت 
نظر الأسطى محسن لي عبر المرآة بعد رشفة شاي ممزوج بالقرنفل وقال: الله يرحمه كل شيء قسمه ونصيب
لم أفهم ما علاقة رحمة الله بقسمته ونصيبه لكن طارق الشيخ أكمل تحفته الفنية 
رضيت أنا بناري 
والآه بمشواري
شوف قد إيه شاري
مجروح وبتألم
شاورنا للأسطى محسن بالنزول على جمب، فرمل فجأة حتى ارتطم رأسي بالمقعد الأمامي 
قائلا: انزل يابني انت وهو وابقوا سلمولي ع المرحوم..
لم أركب مع الأسطى محسن حتى يومنا هذا، أعتقد أنني أنفر من قساة الطبع أكثر مما أنفر من كوابيسي الليلية
كان بيني وبينها موعدًا حتى اصطدمت مرة أخرى بتلك الجملة "كل شيء قسمة ونصيب"
لا أعتقد أن للقسمة دخل في هذا والنصيب كرجل يمشي داخل الحائط لا علاقة له بأي شيء 
قررَت أن تُلغي الميعاد بشكل مفاجئ، أدرت ظهري وتركت قلبي ورحلت، ذهبت لصديقي محل البلايستيشن أجبرته على تجرع كأس الهزيمة مرات عدة، ظل يخسر مني حتى بكى، نظرت له نظرة الأسطى محسن وقلت
- متزعلش، كل شيء قسمة ونصيب 
أدرت ظهري، رحلت وأنا لم أفهم سبب لماذا كل شيء يجب أن يكون "قسمة ونصيب"
غرفتي مليئة بالأعقاب، لم أكن مدخنًا شرها هكذا من قبل لكنها كانت تجبرني بشكل أو بآخر على تدخين كميات كبيرة من النيكوتين 
نظرت لصديقتي ذات العيون البنيّة 
وقلت
- آخر من شربت معه كوب آيس كوفي هو حبيبي الذي علمني شرب السجائر..

title

مقالات ذات صلة

كنتُ أنتظر عناقًا!

04 سبتمبر 2024 04:27 م

search