السبت، 22 فبراير 2025

03:40 م

سامح مبروك
A A

تقديس إبليس | خارج حدود الأدب

التقى نبي الله موسى -عليه السلام- بإبليس عند عقبة الطور، فسأله: يا إبليس.. ما منعك عن السجود؟

فرد إبليس: يا موسى منعني عهدي ألا أسجد إلا لله، ولو سجدتُ لآدم لخنتُ عهدي معه. وإني نوديت لأسجد ألف مرة، فما سجدت.

فاستنكر قوله موسى وسأله متعجبًا: أتركت الأمر؟

فأجابه إبليس من جديد: لم يكن أمرًا، بل كان ابتلاءً.

وَردَ هذا الحوار التخيلي في فصل: "طاسين الأزل"، بكتاب "الطواسين"، أحد أشهر أعمال "الحسين بن منصور الحلاج". المعروف "بالحلاج"، الذي يُعد أحد اقطاب التصوف في التاريخ الإسلامي. وكان هذا الحوار من أعمق ما أثاره الحلاج بفلسفته الفريدة والغريبة في تفسيره لمعضلة معصية إبليس، وتدور فلسفته في فلك عجيب؛ فمحورها أن سبب معصية إبليس ما هو إلا إخلاصه في توحيد الله، فقد كان الحلاج يرى في تلك المعصية قمة الطاعة، وما كان هذا التمرد على الأمر الإلهي المباشر سوى تجلٍّ من تجليات الخنوع والخضوع لأمر الله، فحسب تفسيره وتبريره لإبليس، أن أمر الله بسجوده لآدم، ما كان سوى ابتلاء أو اختبار لمدى وفائه لعهد توحيده وتنزيهه لخالقه. وما تلا ذلك من لعن وطرد وعداء لبني آدم، ما هي إلا خطوات على طريق التبعية المطلقة والانقياد التام لأمر الله وقدره.

وربما تتلخص فلسفة الحلاج حول إبليس في هذا الاقتباس المأخوذ من نفس الفصل والكتاب: "ما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس."  فلسفة فاحت من بعض جوانبها -ربما- رائحة تقديس إبليس، ما دفع عددًا من معاصريه من الفقهاء لتجريم ما تفوه به، وحتى تكفيره.

ولم يكن الحلاج في هذا السياق الفلسفي متفردًا في التاريخ الإسلامي أو البشري بالتأكيد، بل سبقه كثير من الأولين والمتأخرين في تقديس إبليس الذي وصل في بعض الأوقات إلى حد عبادته. ويقف الأنسان دومًا أمام هذا النوع من الجنوح، بل الشطط، متأملًا بل متعجبٌ: كيف لمنطق أو فكر أن ينحرف بهذا الشكل عن الفطرة؟ ولكنك وفي غمرة هذه الدهشة سرعان ما تنصدم بمنطق أشد انحرافًا، منطق وٌلد من رحم تقديس الشيطان، وتطور لتقديس وتبعية بل لعبادة أتباعه من بني آدم.

والآن وبعد مرور أكثر من ألف عام على طرح الحلاج فلسفته الصادمة، تنصدم من جديد لمشاهدة أناس بلا فلسفة ولا منطق، يطلقون التبريكات والتهليلات لانتخاب شخص بعينه في منصب رئيس أقوى دولة في العالم، وتتساءل هل كان في فترته الأولى ما دفعهم نحو هذا الاعتقاد، وإن كان، ألم يسقط ذلك القناع مع خطاب التنصيب الذي كانت تتعالى من كلماته وحركاته ونظراته الآية الكريمة: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾.

وإن انطلى عليهم ما حدث بحفل التنصيب المهيب، ألم يكشف الشيطان عن وجهه الحقيقي في دعواته العنيدة والفظة لتهجير الناس من بيوتهم وأراضيهم قسريًا، بل والتمادي في تهديدهم بالقتل إن لما يستجيبوا، والإمعان في تهديد من يعارض أفكاره المجنونة. ومن أشد عداء للإنسان من إبليس الذي توعده بالفقر والقتل والتعذيب، وهذا بعينه ما يدعو إليه هذا الدكتاتور، الآمنين المستضعفين، هذا وما يزال المؤيدون على غيهم في دعمه، بل والتهليل له.

وتقف متعجبًا أمام هذا السلوك البشري الغريب تجاه إبليس وأعوانه، هل يقع فقط في إطار "متلازمة حب الأشرار" التي عرفها الطب النفسي بانجذاب بعض الأشخاص نحو الشخصيات الشريرة أو المظلمة؟ أم أنها تتخطى ذلك؟ وأيًا كانت الإجابة، فهذا السلوك المتمثل في تقديس إبليس أو التعاطف مع مجرم أو حتى عبادة حاكم أو دكتاتور ظالم، يظل سلوكًا بشريًا عصيًا على الفهم، ويقع تحت إعجاز وإبداع قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾.

وما دام ذلك المنطق العجيب عصيًّا على الفهم أو التفسير، كما أن أصحابه أكثر صلابة تجاه تغييره أو تسويغه، يبقى أن نذكر أنفسنا ونحن معهم في السفينة ذاتها، بقوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾. وأن نستمسك بعروته الوثقى مهما صعبت أو تعقدت تلك المهمة، حتى وإن خرجت فلسفة عبيد إبليس "خارج حدود الأدب".

search