الخميس، 30 يناير 2025

07:43 ص

سامح مبروك
A A

عماليق غزة | خارج حدود الأدب

«اذْكُرْ مَا فَعَلَهُ بِكَ عَمَالِيقُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ خُرُوجِكَ مِنْ مِصْرَ» (سفر التثنية 25: 17)

بعد أيام من طوفان الأقصى في أكتوبر 2023، خرج رئيس وزراء الكيان العبراني على العالم بخطاب ذكر فيه تلك الآية من (سفر التثنية)، خامس أسفار موسى الخمسة المسماة «توراة»، أول الأجزاء الثلاثة لكتاب اليهود المقدس الذي يُسمى «تناخ»، ويسميه المسيحيون «العهد القديم».

وبالتأكيد لم يكن استشهاده بتلك الآية محض صدفة، بل كان بمنزلة إعلان لبداية حملة الإبادة التي أطلقها على سكان غزة منذ ذلك الوقت، وبالعودة السريعة لتلك القصة وملابساتها اليوم بعد الوصول- أخيرًا- لاتفاق وقف إطلاق النار، ربما نستخرج أو نستنتج بعض العبر والمشاهدات من التاريخ.

وترجع جذور القصة إلى وقت خروج بني إسرائيل من مصر، وبعد اتخاذهم عجل السامري إلهًا من دون الله، ذلك العجل الذي صنعوه مما طالته أيديهم من ذهب المصريين، راحوا يقصدون أرضهم الموعودة، وفي الطريق لتلك الأرض كانوا يعيثون كالجراد فسادًا، فلم يسلم قوم في هذا الطريق من آذاهم أو طمعهم.

وكانت أولى عقباتهم في هذا الطريق قوم «عماليق»، وهم مجموعة من القبائل البدوية التي عاشت في الصحراء بين سيناء وجنوب غرب فلسطين التي تُسمى الآن «غزة»، أو- على الأقل- غزة هي الجزء الأكبر منها.

طالت أيادي بعض العبرانيين أراضي عماليق وممتلكاتهم، فاستعر العداء بينهما، واشتعلت نيران الحرب، ثم كانت المعركة الأولى في «رفيديم»، حيث خرج العماليق بقوتهم لوقف تقدم بني إسرائيل. هنا ظهر يوشع بن نون تلميذ موسى وقائد جيشه، يحمل السيف بيد ثابتة، في حين أن موسى- من فوق الجبل- يرفع يديه بالدعاء، وتقول المصادر اليهودية إن انتصار بني إسرائيل كان مرتبطًا بثبات يديه لأعلى خلال الدعاء. 

عندما سقطت يدا موسى تعَبًا، تراجع الجيش، لكن بمساعدة هارون وحور، عادت يداه عاليتين حتى تحقق النصر المجتزأ.

مرت السنون، وأصبح بنو إسرائيل قريبين من دخول أرض الميعاد، لكن العماليق لم يكونوا أعداءً في المعارك فقط؛ بل كانوا رمزًا للخوف والضعف اللذين عشَّشَا في قلوب بني إسرائيل. وعندما أرسل موسى الجواسيس لاستكشاف الأرض، عادوا مرعوبين قائلين: «الأرض عظيمة، لكن سكانها عمالقة، نحن جراد أمامهم»، أو كما جاء في الآية الكريمة: {قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} سورة المائدة (22).

ظلت نيران الحرب مشتعلةً بين العبرانيين الذين حاولوا اغتصاب أرض عماليق وممتلكاتهم ما قارب 350 عامًا بعد ذلك، وهو ما يسمى في كتب العبرانيين بعصر القضاة، وأخيرًا جاء الأمر الإلهي من خلال النبي «صموئيل» إلى الملك «شاول» بأن يبيد العماليق بالكامل:

«اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ما له، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلًا وامرأةً، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا». سفر صموئيل الأول (15:3).

وربما تكون تلك الآية -بالتحديد- التي كان يرمي إليها رئيس الوزراء الحالي في خطابه المذكور في بداية المقال، فعلى الرغم من اختلاف الظروف والأطر والوقائع التاريخية، وبالتغاضي عن ذلك التحريف الذي نال بعض الكتب المقدسة، وإذا -أيضًا- لم نضع في الاعتبار أن سفر صموئيل الأول ليس من أسفار موسى الخمسة، بل إنه من أسفار الأنبياء الأوائل، ولكن نتنياهو أراد استحضار تلك الآية بكل حروفها وكلماتها وأوامرها، وقرر تطبيقها على أهل غزة بحذافيرها.

وبالعودة من جديد للملك شاول -الذي يُجسد دوره الآن نتنياهو- والعماليق، فقد لبّى شاول النداء، وجمع جيوش بني إسرائيل من كل حدب وصوب. وفي تلك المرة كان بنو إسرائيل أكثر نفيرًا وقوةً وعتادًا من عماليق، فانطلقوا إلى ساحة الوغى، واندلع قتال عنيف في وادي العماليق، حيث دوت صرخات الجنود واختلطت الدماء بالتراب. كان النصر حليف بني إسرائيل، وأُبيدت جموع العماليق الذين طالما أسكنوا الرعب في قلوب العبرانيين.

لكن النصر أفسده الهوى، فقد عصى شاول أمر الله -كما جاء في التناخ- ولم يُكمل القضاء كما أُمر. أبقى على «أجاج» ملك العماليق حيًّا، كأنما أراد الاحتفاء بنصره بإذلال ملك مغلوب، أما الجنود فلم يستطيعوا مقاومة فتنة الغنائم، فاحتفظوا بالأغنام والماشية رغم الوصية الإلهية الصارمة بإبادتها. وعندما واجه شاول النبي صموئيل، زعم أنه فعل هذا لتقديم الذبائح لله، لكن صموئيل وبصوت مليء بالغضب أجابه: «هل يرضى الرب بالذبائح كطاعته؟ الطاعة خير من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش».

وجزاءً بمعصيته، نزع الله الملك من شاول، ولُعن في أهله، ففسد عقله، حتى إنه حاول قتل خليفته «داود» لاحقًا بسبب الغيرة والحقد من فقدان ملكه. وانتهت به الحال وأولاده صرعى في إحدى المعارك على أيدي «الفلستينيين» بالتاء، وهم بعض سكان الأرض الأصليين في ذلك الوقت.

وهنا ربما تكون قصة عماليق والعبرانيين قد انتهت، ولكن الأحداث وحلقات التاريخ ما تزال تتكرر، وأترك لك هنا -صديقي- الباب مفتوحًا على مصراعَيه للمقارنات والمقاربات، فما حدث قبل ثلاثة آلاف عام يكاد يتطابق مع ما يحدث اليوم، ويبقى أن نطرح التساؤل، هل بعدما فرض نتنياهو على نفسه ما فرضه صموئيل على شاول، وبعدما فشل تمامًا كما فشل شاول، هل سيكون مصيره مصير شاول نفسه؟ أم ستُحَلِّقُ الأحداث هذه المرة خارج فَلك التاريخ، ولكن القضية -أبدًا- لن تخرج خارج حدود الأدب.

search