الخميس، 30 يناير 2025

07:21 ص

سامح مبروك
A A

بيض كاست | خارج حدود الأدب

في باحة قصر الخلافة الكبير، حيث كان يجلس أمير المؤمنين "هارون الرشيد" وسط لفيف من وزرائه وحاشيته، علا صوت حاجب القصر معلنًا انتظار "أبي نواس" لدى الباب، يرجو إذن الخليفة في الدخول، والانضمام للمجلس، قبل أن يجيب الخليفة الحاجب بتأجيل الإذن، فكانت قد لاحت له فكرة لطيفة، فأمر الحاجب أن يقترب وطلب منه أن يذهب لإحضار ست بيضات من مطبخ القصر على وجه السرعة، ومن دون أن يلحظ أبو نواس.

وبينما هرول الحاجب لتلبية طلب سيده، خاطب هارون الرشيد حاشيته قائلًا: بعد أن ينضم أبو نواس للمجلس مباشرة سأطرح عليكم مسألة، وما عليكم إلا أن تجيبوا إجابات خاطئة تغضبني، فأتمالك نفسي بداية ثم أُظهر غضبًا شديدًا وأصفكم بالدجاج عديمي القيمة، وسآمركم أن تبيضوا كما الدجاج وإلا قطعت رؤوسكم، عندها ستدعون أنكم تبيضون، ويعطيني كل منكم بيضة مما سيوزعها عليكم الحاجب بعد قليل، ولنرى ماذا سيفعل أبو نواس لإنقاذ رقبته؟

ضحك الحضور وسط إعجابهم وحماستهم الشديدة، لتلك المزحة اللطيفة، وفي لحظات كان الحاجب قد أحضر البيض، ووزعه على الحاشية، وعلى الفور خرج الحاجب وسمح لأبي نواس بالدخول، وبدأ هارون الرشيد فور دخول أبي نواس وبعد السلام بتنفيذ خطته، وتفاعل معه الحضور من الحاشية على أفضل ما يكون، وغضب عليهم الخليفة غضبة عظيمة، قام على إثرها يصرخ: يا لكم من جبناء لستم إلا فراخًا. نعم أنتم فراخ لا قيمة لها، وعليكم الآن جميعًا أن تبيضوا كالفراخ، ومن لم يفعل ضربت عنقه، وفصلت رأسه عن جسده.

فارتعب الحضور وأخذوا يتبادلون النظرات في قلق، قبل أن يجلس أحدهم ويبدأ في “الحزق” تمامًا كالدجاج، ثم يخرج من بين ثيابه البيضة التي أعطاها له الحاجب وسط ادّعاء الحضور بالدهشة، وعلى الفور تبعه الثاني فالثالث حتى السادس، كل منهم نفّذ دوره المطلوب بدقة، ووضع البيضة بين يدي سيده، حتى جاء دور أبي نواس والجميع وفي مقدمتهم الخليفة في ترقب، فقام أبو نواس من مجلسه، وأخذ يقفز وسط الساحة بطريقة مضحكة، ويحكّ قدميه في الأرض، ثم راح يصيح صياح الديوك.

فسأله الخليفة: ماذا عساك تفعل يا أبا نواس؟ فأجابه على الفور: وكيف لفراخك أن تبيض بلا ديك يا مولاي؟ فانفجر الخليفة في الضحك ومِن حوله الحضور على سرعة بديهة الرجل وذكائه ودهائه.

ومن لم يعرف أبا نواس من قبل قد يُخيل له أنه أحد المهرجين في بلاط الخلافة، ولكنه لم يكن كذلك، بل كان أحد أهم الشعراء والأدباء النابهين في عصر الخلافة العباسية، وكان دائم الحضور في مجالس الخليفة هارون الرشيد وابنه محمد الأمين من بعده، وتلك كانت العادة ربما في كل قصور الحكم عبر التاريخ، أن يجمع الحاكم من حوله مثقفي وعلماء وحكماء دولته، ليس فقط للاستشارة وأخذ الرأي، بل أيضًا للحوار الثقافي والعلمي والمجتمعي الراقي، الذي يرتقي بالحكم والخلافة لآفاق تواكب العصر.

وربما يا صديقي كانت تلك المجالس العامرة بالحوارات الهادفة للمثقفين والعلماء، تتشابه إلى حد كبير مع فكرة "البودكاست"، الذي تعود أصولها إلى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتحديدًا في عام 2004، حين قام الصحفي "بن هامرسلي" بصياغة هذا المصطلح "بودكاست" في مقالٍ له بصحيفة "الغارديان"، حيث دمج كلمتي "iPod" وهو جهاز تشغيل الموسيقى، مع كلمة "Broadcast" وتعني البث، وكان المصطلح يصف تجميع ملخصات الأخبار والمقالات العلمية المنشورة حديثًا في ملفات صوتية، يستطيع المتابع أن يستعيض بالسماع إليها عن القراءة لتلبية حاجاته الثقافية والإخبارية أثناء القيادة أو العمل. ومع مرور الوقت، توسع نطاق البودكاست ليشمل مجموعة واسعة من المواضيع، بدءًا من الأخبار والتعليم وصولًا إلى الترفيه والحوارات الشخصية.

والآن وبعد عشرين عامًا من ظهور "البودكاست"، ها هو يجتاح منصات التواصل الاجتماعي في عالمنا العربي، ولكن ليس بمفهومه الأصيل، بل تمامًا بمفهوم بيض أبي نواس وهارون الرشيد، فكما اختزل مجلس هارون الرشيد دور أبو نواس في حكاية النوادر والتسلية وقصائد الخمر، اقتصر دور البودكاست في منصاتنا على التفاهات، وترجل المثقفون من الركب -إلا من رحم ربي- ليتركوا المشهد لمجموعة من المهرجين، يملؤون فضاء الإنترنت بساعات من السخافة. فلا تخلو مرة تفتح فيها واحدة من منصات التواصل الاجتماعي، إلا وتشاهد الفيديوهات تنهال كالإسهال، تشاهد فيها هذا يضحك مع هذا على موقف سخيف، وذاك يحكي مع ذلك عن تجربته العصماء في تحقيق اللا شيء. تطبيق مشوه لظاهرة استفاد الغرب منها الكثير.

ولعلي أعزي السبب في انتشار ورواج تلك المقاطع غير الهادفة، لما تحققه من مكسب سريع، لأنها تُحاكي الترند، وتصنع تلك البهجة المؤقتة والمزيفة، كبيض أبي نواس بالضبط، بينما يتخوف المنتجون والمثقفون معًا من خوض غمار تجربة ثقافية حقيقية للبودكاست، يتخوفون من سوء الاستقبال أو ندرة الإقبال، ناهيك عن انعدام التفاعل مع المواضيع الجدية، وعلى الرغم من ذلك فهذا التخوف لا يجب أن يُثني مثقفي وعلماء عالمنا العربي عن مداومة المحاولة، كما فعل بعضهم مؤخرًا من خلال إطلاق برامج ثقافية جادة ومتميزة، والتي بدأت تجذب جمهورًا واعيًا، مما يدل على أن الجودة تجد طريقها دائمًا للظهور. فلا يزال دورهم الرئيس عدم تفريغ الساحة للسخافة، فالحق باقٍ وظاهر وإن تأخر.

وفي النهاية أشكر من يقف صامدًا من مثقفي عالمنا العربي في مواجهة بيض أبي نواس، وأدعوهم إلى المزيد من المحاولات، لعلها تنجح، ولا نترك ظاهرة البيض كاست تلك خارج حدود الأدب.

search