الإرهـ ـــــ ـاب العلماني | خارج حدود الأدب
في تمام الساعة الثالثة عصرًا في الثاني والعشرين من شهر يوليو عام 2011، استقل السيارة التي تحمل حلمه، ليس فقط حلمه بل قضيته التي عاش يكافح ويناضل من أجلها لسنين.
استقل السيارة التي أعدها خصيصًا لهذا اليوم الكبير، وانطلق نحو أهم أحياء أوسلو، عاصمة النرويج، وبالتحديد حي الحكومة، حيث تكتظ المباني الحكومية في ذلك الوقت بالموظفين من كافة المستويات.
ترك سيارته في وسط المباني الحكومية بعد أن أخذ منها حقيبة كبيرة، واستقل سيارة أخرى كان قد تركها في نفس المكان من قبل، وانطلق نحو شمال أوسلو.
وتمامًا عند الساعة 3:25 وأثناء خروجه من حي الحكومة، سمع الصوت الذي أطرب أذنيه، وضمد جراح قلبه، وشفى غليله، وأثلج صدره. إنه صوت النصر، وأصدر معه صرخة مدوية احتفالًا بما حققه، وما كان الصوت إلا صوت انفجار 950 كيلو جرامًا من المتفجرات، كان قد فخخ به سيارته الأولى. فجرها هناك، في قلب الحكومة النرويجية. ولم يكن هذا سوى الجزء الأول من الخطة.
ففي أعقاب الانفجار المدوي، هرعت كل أجهزة الشرطة والدفاع المدني نحو حي الحكومة، فيما ترجل هو من سيارته بتؤدة وثقة، ليدخل إحدى محطات الوقود، ويقوم بتبديل ملابسه، ليتنكر في زي شرطي كان قد أعده في تلك الحقيبة، وعاد لسيارته الثانية من جديد ليكمل رحلته نحو شمال أوسلو.
ضربت الفوضى النرويج، وارتفع عداد ضحايا الانفجار بشكل مرعب، فقد كان عداد ضحايا الانفجار يتسارع بشكل مرعب، وعلى الفور بدأت وسائل الإعلام المحلية، مثل شبكة (NRK)، والعالمية مثل "الجارديان" و"نيويورك تايمز" و"الواشنطن بوست" ووكالة "أسوشيتد برس" في تناول الحادث في مقالات وأخبار نُشرت مباشرة بعد الانفجار، وجميعها تبنت فرضية وجود هجوم من قبل "إسلاميين متطرفين" على النرويج، حيث تم ربط الهجوم بسياق الهجمات السابقة على أهداف غربية.
وفي تمام الساعة الخامسة، كان صديقنا قد وصل في زيه الشُرطي، إلى جزيرة "أوتويا" في شمال أوسلو، وكان قد ترجل من سيارته الثانية بعد أن أخذ سلاحًا ناريًا وبعض الذخيرة من حقيبته، والكثير من الذخيرة، وخَول له تنكره أن يدخل معسكر شباب حزب العمل النرويجي (اليساري)، الذي كان يقام على تلك الجزيرة لمجموعة من شباب الحزب، والذين تتراوح أعمارهم بين 14 و20 عامًا. وفور دخوله المعسكر وجد أمامه تجمعات الشباب فأعمل فيهم إطلاق النار، وراح يثخن القتل.
وبينما كانت الأنباء تتحدث عن دمار كبير في الحي الحكومي وأعداد ضحايا وصلت إلى 200 من المصابين، وثمانية قتلى، من بينهم موظفون مرموقون بالحكومة، ووسط انشغال الجهات الأمنية والمدنية بهذا الانفجار، كانت أنباء الحادث الثاني أسرع وصولًا للإعلام من وصول الشرطة إلى جزيرة "أوتويا"، مما أتاح المجال للقاتل من زيادة غلة ضحاياه. وهنا تنامت أكثر في وسائل الإعلام العالمية فرضية الهجوم الإرهابي الإسلامي المُركب، الذي يضرب بالنرويج.
وبعد ساعة ونصف من بداية الهجوم الثاني، أي في تمام السادسة والنصف، وصلت الشرطة إلى جزيرة "أوتويا"، لتجد المنفذ -مجازًا- يرقص على جثث 69 من ضحاياه. وعلى الرغم من حمله لسلاحًا إضافيًا وحزام ذخيرة، إلا أنه لم يقاوم على الإطلاق، بل سلم نفسه للشرطة بكل هدوء.
وبعد اعتقال الجاني والتحقيقات الأولية، بدأت الخطوط العريضة للجريمة تتضح، وسط أجواء من الدهشة والذهول في أوساط الإعلام قبل العوام. اتضح أن المنفذ هو النرويجي أندرس بهرنغ بريفيك (مواليد 13 فبراير 1979)، كاثوليكي النشأة، وثني الديانة، فقد كان يعتنق ديانة تُدعى الديانة الأودينية الجديدة، وهي حركة دينية معاصرة ترتبط بالمعتقدات القديمة في الأساطير الإسكندنافية. يقدس أتباعها الآلهة الإسكندنافية، مثل أودين، وثور، ولوكي، -نعم- تمامًا كما قرأت شخصيات فيلم "ثور" الشهير.
وفي بيانه الذي نشره قبل الحادث والذي تخطى 1500 صفحة، كان بريفيك يعارض بشدة الهجرة الإسلامية إلى أوروبا، ويعدها بنزلة "غزو" يجب مقاومته للحفاظ على القيم الغربية. وتبنى أفكار اليمين المتطرف، ودعا إلى إنشاء "شبكة صليبية جديدة" لمواجهة ما اعتبره تهديدًا إسلاميًا لأوروبا، وأعلن تأييده الكامل لإسرائيل.
وتمامًا كما تتوقع صديقي القارئ، في عام 2012، تم محاكمة بريفيك، الذي تم تصنيفه قانونيًا كـ "مجنون". وحُكم عليه بالسجن 21 عامًا قابلة للتجديد لمدة غير محدودة في حال كان لا يزال يشكل تهديدًا للمجتمع.
وقبل أيام، وبالتحديد في العشرين من ديسمبر الجاري، أي بعد ثلاثة عشر عامًا من حادثة أوسلو، شهدت مدينة "ماغديبورغ" الألمانية حادث دهس مروع في سوق عيد الميلاد، حيث قاد رجل يبلغ من العمر 50 عامًا سيارته لمسافة 400 متر بين الحشود، مما أسفر عن مقتل 11 شخصًا وإصابة 80 آخرين.
وتمامًا كما حدث في حادث أوسلو، تبنت وسائل الإعلام العالمية في اللحظات الأولى بعد الحادث ذات الفرضية النمطية، وتصدرت الصحف عناوين مثل (هجوم من قبل "إسلاميين متطرفين" يضرب ألمانيا). وحينما أفادت التقارير بأن المهاجم يُدعى طالب عبد المحسن، وهو طبيب نفسي سعودي، أصبحت تلك الفرضية غير قابلة للدحض.
وذلك قبل أن تنتكس الفرضية من جديد تمامًا كما حدث في هجوم النرويج، ويتضح أن الطبيب النفسي ربما كان يعاني الكثير من الأمراض النفسية. فقد لجأ لألمانيا بعد ادعائه التعرض للاضطهاد الديني في السعودية، وسريعًا ما تنصل من الإسلام وارتد عنه، ليعلن نفسه ملحدًا علمانيًا، بل عدوًا ومناهضًا للإسلام، ومن جديد سيصبح الجنون أو الاعتلال النفسي وحده في قفص الاتهام.
إن المجتمع "العلماني" قد أسس لفرضية "الإرهاب الإسلامي" لتصبح فرضية نمطية، سرعان ما تلتصق بأي حادث يحدث في أي من أطرافه، قبل البحث عن المنفذ أو الدوافع، بل أصبحت كأنها حكم مسبق على أي عمل تخريبي، وهذا يفرض التساؤل، هل تلك العمليات الإرهابية العلمانية السابق ذكرها في هذا المقال، هي عمليات شاذة أو فردية؟ وقبل أن نجيب على هذا التساؤل؛ فلننظر على تلك الأعداد الهائلة للجثث التي دفنت تحت تراب العلمانية، في الثورة البلشفية، والثورة الفرنسية، وفي الصين وغيرها من الدول التي اتخذت من العلمانية أيدولوجية فوق الأديان، وأمعنت في قمع معارضيها بكل أنواع التنكيل بل القتل.
ونحن هنا لسنا في مقام نفي الإرهاب عن الإسلام، فهي فرضية فاسدة من الإساس لا تستدعي دحضها، ولكننا نتساءل متى نسمي المسميات بأسمائها الحقيقية؟ متى نضع الإرهاب العلماني تحت بؤرة الضوء الذي يستحقها؟ هل أعداد ضحايا ذلك الإرهاب العلماني التي تقدر بالملايين، لا تسترعي منا رصده ومحاسبته، وتسميته باسمه؟ أما آن الأوان أن نضع الأمور في نصابها وندخل ذلك الإرهاب العلماني داخل حدود الأدب؟
الأكثر قراءة
مقالات ذات صلة
خارج حدود الأدب| إدارة الخطيب.. بين التهليل والتضليل!
27 يناير 2025 12:50 م
عماليق غزة | خارج حدود الأدب
16 يناير 2025 04:23 م
بيض كاست | خارج حدود الأدب
30 ديسمبر 2024 12:49 م
عادل الفار | خارج حدود الأدب
30 نوفمبر 2024 02:44 م
أكثر الكلمات انتشاراً