سامح مبروك -
تامر أمين والتاريخ الحزين.. خارج حدود الأدب
أثناء امتحانات الثانوية العامة عام 1975، كان هناك سؤالًا في مادة اللغة العربية يقول: استبدل "كان" بـ"إن" في الجملة التالية وغير ما يلزم؛ وكانت الجملة هي: "كان العاملون مجتهدين"، وفي إحدى لجان التصحيح يفاجئ المصحح بأن أحد طلاب مدرسة المتفوقين بعين شمس كتب في ورقة الإجابة: هذا السؤال خطأ في نفسه؛ لأن الباء تدخل على المتروك، فكان الصواب أن يقول واضع الاختبار استبدل "إن" بـ"كان" وليس كما جاء في صيغة السؤال، والدليل على ذلك قول الله -عز وجل-: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ}.
حينها اعترفت الوزارة بالخطأ في صيغة السؤال وتم تكريم ذلك الطالب الذي دخل كلية الطب وتفوق فيها، ولم يكن تفوقه في الطب فقط بل فاق ذلك لمجالات العلوم المتنوعة حيث تخطى مجموع مؤلفاته 140 مؤلفًا في الأدب واللغة والتاريخ والنقد والفكر والفلسفة والسياسة، وما كان هذا إلا الكاتب والمفكر المصري الدكتور محمد الجوادي الذي ترك بصماته العلمية الموسوعية في شتى مناحي العلوم الإنسانية.
وعلى مر العصور لم تكن العلوم البحتة والتطبيقية كالطب والهندسة والرياضيات والفلك، هي فقط محور اهتمام العلماء ومصدر نهضة الشعوب، بل كانت للعلوم الإنسانية كالفلسفة والأدب والتاريخ دور رئيسي وفاعل في نهضة ونمو الأمم، وقد سبق في ذلك الكثير من العلماء الموسوعيين كالشيخ الرئيس ابن سينا وابن الهيثم أو أبو بكر الرازي، أثروا العالم بمؤلفاتهم في العلوم البحتة والتطبيقية ولاسيما الإنسانية.
مشكلة أزلية
واعتقد أن من أنشاء نظام التعليم في مصر منذ تأسيس مرحلة الثانوية العامة إبان الاحتلال الإنجليزي قد فطن لأهمية تنوع العلوم، وبالتحديد أهمية شقي العلوم (العلمية والأدبية)، ففي عام 1905 كانت الثانوية العامة 4 سنوات، ولكن قسمت على قسمين مدة كل قسم سنتين، ينتهي القسم الأول بامتحان يحصل الناجحون فيه على (شهادة الأهلية)، والقسم الثاني تتشعب فيه الدراسة إلى شعبتين (أدبية وعلمية).
وبلا شك، من أنشأ هذا النظام التعليمي لم يكن يعلم بالتأكيد أن تلك المرحلة وخصوصًا سنتها الأخيرة ستصبح وبالًا وكابوسًا على شعب بأكمله، بل وتصبح حقل تجارب ما بين الحقبة والأخرى للمحاولة في الحد من ضغوطها الهائلة على العائلات قبل الطلاب.
ومع تعالي الصخب في هذه الآونة من جديد حول جدوى وفاعلية هذا النظام التعليمي، تنادي من جديد أصوات عديدة من مواقع مختلفة بضرورة تطوير هذا النظام، وتتواتر المقترحات بإلغاء مواد بعينها ودمج أخرى، ناهيك عن تخفيف وتطوير المناهج التي تحتاج لذلك بالفعل، وقد تصل إلى حد تغيير النظام برمته، فبدلا من كونها سنة "تعذيبية" واحدة، هناك من يقترح أن تكون ثلاث سنوات من العذاب.
"لا لدراسة التاريخ"
وقد يكون أكثر ما لفت الرأي العام وأثار ضجة، تلك التصريحات التي أطلقها الإعلامي تامر أمين، وإن كانت قد انتشرت "مجتزأة" أو خارج السياق بمطالبته بإلغاء التاريخ والجغرافيا وغيرها من العلوم الإنسانية بحجة أنها لا تفيد في سوق العمل.
وعلى عكس المعارضين أتفق هنا إلى حد كبير مع الأستاذ تامر أمين، فحقيقة قد تم تفريغ الثانوية العامة من هدفها الحقيقي، وتحولت من مرحلة تعليمية، تثري دارسيها بأنواع العلوم والثقافات المتنوعة التي تعينهم في دراساتهم الجامعية المستقبلية، وتدعم مستقبلهم العلمي والعملي بالثقافة اللازمة، وتحولت مرحلة تحصيل وفقط، وليس المقصود هنا هو تحصيل العلوم، بل تحصيل الدرجات للوصول إلى مرحلة التنسيق بالدرجات المؤهلة لكليات القمة.
هكذا أصبحت العلوم بأنواعها عبء على الطالب وأهله، وخرجت من حقيقتها التي أدركها من قبل كبار العلماء عبر العصور، وأرى أن التوفيق ما بين أهمية دراسة العلوم بأنواعها من جهة، وتطوير وتجهيز الطلاب لسوق العمل والحياة العملية من جهة أخرى، يجب أن يأخذا بنفس درجة الأهمية، وبما أن قدرات وميول الطلاب تتنوع وتتغير، وكذلك متطلبات سوق العمل أرى أننا في حاجة إلى نظام أكثر مرونة، يضمن إقبال الطلاب على الدراسة وحبها، بالإضافة إلى الجدية في تناول المواد المتعلقة بالحياة العملية.
هنا أقترح – وإن جاز لي هذا – أن يتم تحديد مواد محدودة ومحددة كمواد مجموع مؤهلة بدرجاتها للكليات، على سبيل المثال تكون درجات مواد (اللغة الإنجليزية واللغة العربية والتاريخ وعلم النفس) هي فقط المؤهلة للكليات الأدبية، بينما تكون باقي المواد الإلزامية للنجاح فقط، والعكس يطبق على المواد العلمية فتكون على سبيل المثال درجات مواد (اللغة الإنجليزية والرياضيات والكيمياء والفيزياء والأحياء) هي فقط المؤهلة للكليات العلمية، بينما تكون باقي المواد الإلزامية مواد نجاح فقط مع ضمان تحصيل الطالب منها ما يضمن حد عال من الثقافة والمعرفة، وهكذا قد نكون رفعنا ضغط الدروس الخصوصية عن الكثير من المواد، وبالتبعية الكثير من الأعباء المادية والنفسية عن الكثير من الأسر، وبالتالي تصبح كثير من المواد للتعلم والدراسة والثقافة بعيدًا عن ضغط الدرجات، وربما تخرج هذه الطريقة الثانوية ولو قليلًا من طور الضغط النفسي والقلق، والكثير من التعامل مع هذه المرحلة والذي يقع دائمًا خارج حدود الأدب.
الأكثر قراءة
-
04:55 AMالفجْر
-
06:26 AMالشروق
-
11:41 AMالظُّهْر
-
02:36 PMالعَصر
-
04:56 PMالمَغرب
-
06:17 PMالعِشاء
مقالات ذات صلة
وسام شرف | خارج حدود الأدب
12 نوفمبر 2024 07:00 م
البحث عن فضيحة | خارج حدود الأدب
01 نوفمبر 2024 12:35 ص
الاعتذار سيد الأدلة | خارج حدود الأدب
24 أكتوبر 2024 02:31 م
أكبر قلعة رياضية | خارج حدود الأدب
14 أكتوبر 2024 05:10 م
خارج حدود الأدب| نعيم ماسك وجحيم مارك
06 أكتوبر 2024 04:00 م
نبوخذ -نصر- الله | خارج حدود الأدب
30 سبتمبر 2024 12:28 م
لهاليبو يع يع | خارج حدود الأدب
25 سبتمبر 2024 08:27 م
خارج حدود الأدب | حياة الماعز وعبادة البقر
06 سبتمبر 2024 04:00 م
أكثر الكلمات انتشاراً