الأحد، 01 ديسمبر 2024

09:30 ص

سامح مبروك
A A

عادل الفار | خارج حدود الأدب

في مساء شتوي هادئ من ديسمبر 2011، قرر شابان في مدينة ماديسون بولاية ويسكونسن ارتكاب جريمة بطريقة لا تُنسى. كانت الخطة بسيطة: اقتحام متجر "تارجت" لبيع الأقراص المدمجة الأصلية، السطو على ما غلا ثمنه وخف وزنه، ثم بيع المسروقات لتحقيق أرباح سريعة. الأمور بدت سهلة التنفيذ، لكن الشريك الأهم في هذه الجريمة كان غائبًا، وهو "الذكاء".

بدأت العملية كما خُطط لها: اقتحام ناجح، وخروج بحقيبة مليئة بأقراص الفيديو والألعاب الإلكترونية، والسيارة كانت بانتظارهم. انقضى النصف الأصعب من المهمة، ولم يتبقَ سوى بيع الغنائم واقتسام الأرباح. لكن أثناء مغادرتهما المتجر، ضغط أحدهما، دون قصد، على زر الطوارئ 911 الذي يُفعل بالهاتف أثناء القفل. وهكذا، بدأ تسجيل مباشر لأغبى سرقة في التاريخ.

ولم تكن المكالمة قصيرة، بل استمرت حوالي ساعة، جلست خلالها مأمورة الطوارئ تستمع بذهول بينما يناقشان أدق تفاصيل العملية:
ماذا سرقا وكيف نفذا ذلك؟
أين سيبيعان المسروقات؟
والأهم: وصف دقيق لسيارتهما!

بدا كأنهما يقدمان تحقيقًا صوتيًا مكتملًا للشرطة. وبفضل هذا، لم تحتج السلطات إلى شهود أو تحريات إضافية. قسم الطوارئ تتبع المكالمة وحدد موقع السيارة. وصلت الشرطة إلى موقف السيارات حيث كانا يخططان لبيع الغنائم، وأحاطتهما بسرعة. تمت مصادرة المسروقات والقبض عليهما بسهولة.

كما أن سذاجة لصي ماديسون قادتهما إلى السجن، فإن حادثة أخرى أقرب إلينا تُظهر كيف أن غياب الحكمة قد يوقع حتى الشخصيات المرموقة في مأزق مشابه.

وحين يتعلق الأمر بشخصيات مرموقة ومسؤولة، يصبح غياب العقل خطيئة لا تُغتفر. وهنا نتحدث عن السيد محمد عادل، ضابط الشرطة السابق وحكم كرة القدم الأكثر جدلًا وشهرة في مصر وأفريقيا حاليًا.

فقد تابعت الجماهير المصرية خلال الأسابيع الماضية حادثة تسريب شهيرة من غرفة تقنية الفيديو المساعد (VAR) لمباراة البنك الأهلي والزمالك، نشرها أحد الصحفيين في برنامج تلفزيوني شهير. ربما كانت ردود الفعل أكثر صخبًا من طبيعة التسريب ذاته؛ فالجميع يدرك أن الأخطاء وربما بعض المجاملات قد تكون واردة في كرة القدم. لكن السيد محمد عادل اعتبر التسريب إهانة لا يمكنه تجاوزها، ما أكسبه بعض التعاطف، خصوصًا مع موقفه الثابت ودفاعه المستميت عن كرامته.

قرر عادل التوجه إلى دار القضاء العالي باحثًا عن جانب من اسمه وعمله الحالي والسابق، يبحث عن حكم عادل يحمي سمعته.  وهنا يجزم القارئ، بل يكاد يتيقن، أن رجلًا بخلفية شرطية صارمة، ومهنة تتطلب العدالة والحكمة، لا بد أن يكون مدعومًا بالقرائن والحجج الكفيلة بإثبات موقفه.

لكن، وكما في ترند "الآن مع المفاجأة الكبرى"، طالبت النيابة مع بدء التحقيق بالتسجيلات الأصلية لغرفة الفار لمطابقتها مع ما أُذيع. وهنا تكشّفت مفاجآت صادمة: ما نُشر لم يكن سوى غيض من فيض، فصل واحد هابط من مسرحية هزلية مكتملة. سرعان ما انقلب السحر على الساحر، ووجد محمد عادل نفسه في مأزق كبير. ليفاجأ أن تلك السهام التي كان يوجهها للصحفي والإعلامي تلتف وتتحول جميعًا نحو صدره، وتحول هو إلى متهم، يواجه جعبة ممتلئة بالاتهامات المنتقاة، بعضها من نادي البنك الأهلي الذي تعرض له عادل بالسب والقذف في مكالمة مسجلة وموثقة أثناء عمله -وذلك بحسب التقارير عن التسجيل- ، وبعضها من مذيع تعرض له بالتشهير والتكذيب، واتهامات أخرى بتكدير المجتمع وازدراء الأديان.لو أن محمد عادل تصرف بحكمة واعتذر عن الخطأ، لربما مرت الواقعة دون ضجة. لكن غياب الثقافة وضعه في موقف حرج.

فالثقافة تمنع الإنسان من الانزلاق إلى استخدام ألفاظ كهذه في محادثات رسمية مسجلة، والمسؤولية تحتم احترام الموقع الوظيفي، والذكاء يدفع إلى الاعتراف بالخطأ بدلًا من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة. حادثة محمد عادل، إن صحت، تكشف أهمية الثقافة والمسؤولية في التعامل مع أدوارنا في المجتمع، وتؤكد أن غياب هذه العناصر قد يحوّل حتى الأخطاء الصغيرة إلى فضائح مدوية. والقليل من الذكاء كان ليمنع لصي ماديسون من الوقوع في قبضة العدالة، وما كنا لنأتي على ذكرهما أو ذكر عادل خارج حدود الأدب.

search