
بوح| اليُتمُ النوراني: كيف صاغت حكمة الله قلب نبيه؟
أيها السائر في دروب القدر، هل تأملت يومًا كيف أن بعض القلوب تُهيّأ للمجد عبر بوابات الفقد؟ كيف أن الله يأخذ ليعطي، ويجرح ليجبر، ويُخلّف القلب وحيدًا ليملأه بنور لا يخبو؟ كان يمكن أن يولد نبيُّ الرحمة في بيتٍ يضجّ بالأمان، في حضن أبٍ يرعاه، وأمٍّ تحتضنه حتى الكِبَر، لكنه وُلد يتيمًا، فكان ذلك أول دروس العناية الإلهية في سيرته
لقد شاءت الإرادة الإلهية أن يُطهَّر قلب نبيِّه بالفقد، وكأن العناية الربانية أرادت أن تُعدَّه لمقام الاصطفاء، فجاءت به إلى الدنيا محرومًا من أن يعرف أباه، ثم لم تُمهله ليألفَ أمه. ست سنواتٍ فقط، هي كل ما كان له من الأمومة، ثم تُسلب منه آمنة، تلك التي لم تُشبع قلبه صِغَراً، وكأن الله يُجرِّده من الحُبِّ الأرضي ليكون حبُّه الأعلى سماوياً.
كان يمكن أن يُحاط النبي (ص) بدفء الأهل كما يُحاط غيره، لكنه أُريد له أن يكون كالغريب في دنياه، لا يسكن إلى أحدٍ، كي يسكنَ كلُّ محرومٍ إليه بعد ذلك. كان يمكن أن يُدفن اليتيمُ في الحزن، لكنه اختير ليكون رحمةً للعالمين، ليكون قلبه وحده الحضن الذي لا يُفقد، والصدر الذي يتّسع لكل من ذاقوا مرارة الوحدة.
لكن الله لم يُتمُّ امتحانه بنزع أمٍّ واحدةٍ فقط، بل كانت رحلته كلُّها سفرًا في دروب الفقد. ماتت زوجه الأولى، سندُه في الأرض، خديجة التي لم يُحب امرأةً بعدها كما أحبها، رحلت حين اشتدَّ عليه البلاء وكأنها وديعته التي استُردَّت حين آن الأوان، فسمّاه "عام الحزن".
ثم امتدت يد الفقد إلى أولاده، واحدًا تلو الآخر، حتى دفنهم بيديه، وكأن الله أراد أن يُذيقه كل ألوان الفقد ليُطهّره من أي تعلُّقٍ بالدنيا. فقد ابنيه القاسم وعبدالله في مكة، ثم زينب، التي ودّعها بعد سنواتٍ من الألم والمعاناة، ثم رقية وأم كلثوم، حتى كان آخرهم فاطمة، التي أخبرها أنها أول من سيلحق به. أما إبراهيم، فقد انسكبت دموعه الطاهرة على وجنتيه وهو يُودّعه، لكنه قالها: "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا".
أيُّ يقينٍ هذا الذي يجعل الرجل يدفن أبناءه جميعًا ولا ينكسر؟ أيُّ نورٍ صاغ قلبه حتى صار العزاء نفسه؟ الفقدُ الذي يُمزّق القلوب، كان هو ذاته الذي جعل قلب النبي (ص) يتسع للعالمين. لم يكن يتمه حرمانًا، بل إعدادًا، ولم يكن حزنه ضعفًا، بل تجريدًا، لم يكن كسرًا، بل تشكيلًا لنبيٍّ لا تحرِّكه الدنيا، لأنه لم يُمنح فيها ما يُقيّده.
وفي عيد الأم، حين يفتقد اليتيمُ أُمهُ، وحين ينظر المحرومُ إلى موائد الحنان ولا يجد مقعده، فليعلم أن الفقدَ لا ينقصُ الروح، بل يُدرِّبها على الارتفاع. ألا ترى أن الله لم يُرد لنبيِّه (ص) أن يكون له قلبٌ أرضيٌّ يكتفي بحُبٍّ واحد، بل جعل له قلبًا يتّسعُ ليحمل أمّةً بأكملها؟ فلا حزنٌ يُذهبُ النور، ولا فقدٌ يُعدمُ الوصل، وما تُخفيه الحكمة أعظمُ مما يرى العيان.

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
بوحٌ| ليلة العيد.. حين تسكن الأرواح بين الوداع واللقاء
30 مارس 2025 07:41 م
بَوحٌ| رحلة في نور ليلة القدر.. في محراب عمرو بن العاص
27 مارس 2025 02:51 م
بوح| ربُّ الكون يريد قلبك.. في أدب الدعاء
24 مارس 2025 06:07 م
بوح| بين الناجي والضحية.. حكمة العابرين على جسر الألم
20 مارس 2025 04:34 م
أكثر الكلمات انتشاراً