
بوح| ربُّ الكون يريد قلبك.. في أدب الدعاء
أيها السائر في دروب القدر، أما شعرت يومًا أن هناك شيئًا ناقصًا في دعائك؟ أنك ترفع يديك، لكن قلبك لا يرتفع معهما؟ أن لسانك يلهج بالكلمات، بينما روحك ما زالت ساكنة؟ الدعاء ليس مجرد ألفاظٍ تُقال، بل لقاءٌ بينك وبين الله، حوارٌ خفي، نداءٌ يخرج من أعمق نقطة في روحك.
إن ربّ الكون لا يريد لسانك فحسب، بل يريد قلبك. يريدك أن تأتيه كما أنت، بلا تصنع، بلا أقنعة، بلا كلماتٍ منمقة تخشى أن تكون ناقصة. إن أقرب ما يكون العبد إلى ربه حين يكون صادقًا في دعائه، حين يكون الدعاء صوت ضعفه، صوت شوقه، صوت يقينه.
هل تظن أن الله يحتاج إلى إطالة الدعاء ليعطيك؟ ألم يقل نبيه: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"؟ لحظة السجود، حين لا يكون بينك وبين الأرض شيء، وحين يكون بينك وبين السماء كل شيء.
أما رأيت موسى حين وقف أمام البحر، لم يدعُ بدعاءٍ طويل، لم يرفع صوته متوسلًا، بل قال بيقين: "كلا إن معي ربي سيهدين". وأما زكريا، فلم يرفع حاجته إلا همسًا: "إذ نادى ربه نداءً خفيًا"، فجاءه الفيض، ووهب له الله ما ظنه مستحيلًا.
يكفي أن تتقلب روحك في السماء، كما كان يفعل النبي ﷺ حين قال الله عنه: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلةً ترضاها" (البقرة: 144).
لم يطلب النبي ﷺ بلسانه، لم يتضرع بصوت، لكنه رفع قلبه قبل وجهه، ونظر نظرةً يملؤها الرجاء، فكان الرد إلهيًا يحمل العطاء بلا سؤال. وهذا من أصدق معاني الدعاء: أن تُناجي الله بما في داخلك قبل أن تنطقه شفتاك.
فكم من دعاءٍ ارتفع ولم يسمعه الناس، لكنه وصل إلى الله لأن صاحبه كان صادقًا، موقنًا، متجردًا من حوله وقوته، معتمدًا على لطف الله وحده؟ وكم من كلماتٍ رُددت على الألسنة، لكن لم يكن لها أثر، لأنها خرجت بلا يقين، بلا خشوع، بلا روح؟
يقول الحلاج: "أدعو بقلبي على من ليس يعلمُهُ.. وأستغيثُ بلا قَولٍ ولا صوتِ"
فهل أدركت أن الله يسمعك قبل أن تنطق؟ يرى ما في قلبك قبل أن تبسط يديك؟ إنه لا يريد منك عباراتٍ منمقة، ولا صياغاتٍ بليغة، بل يريدك كما أنت، بخشوعك وانكسارك، بثقتك في عطائه، بيقينك في استجابته.
أيها السائل، لا تحتج بضيق الكلمات، ولا تخف إن لم تجد العبارات المناسبة، فالله لا ينتظر منك فصاحة، بل يريد قلبًا مقبلًا، يريد أن يراك مستسلماً لحكمه، متيقنًا بعطائه، كما كان نبيه ﷺ يتقلّب وجهه في السماء، فينزل عليه الوحي بطمأنينةٍ لم يطلبها بلسانه، لكنها كانت حاضرة في قلبه.
فكيف بك وأنت تسجد وتهمس: "يا رب"؟

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
بوحٌ| ليلة العيد.. حين تسكن الأرواح بين الوداع واللقاء
30 مارس 2025 07:41 م
بَوحٌ| رحلة في نور ليلة القدر.. في محراب عمرو بن العاص
27 مارس 2025 02:51 م
بوح| اليُتمُ النوراني: كيف صاغت حكمة الله قلب نبيه؟
21 مارس 2025 02:47 م
بوح| بين الناجي والضحية.. حكمة العابرين على جسر الألم
20 مارس 2025 04:34 م
أكثر الكلمات انتشاراً