
بَوحٌ| رحلة في نور ليلة القدر.. في محراب عمرو بن العاص
لم أختر الطريق، بل اختارني، كأنني كنت مدعوا إلى مقام لا يُفتح إلا لمن أتاه بشوقٍ يشبه العطش الأزلي إلى الرحمة. عبرت شوارع القاهرة العتيقة، تتبعني ظلال الأزمنة، حتى بلغت الفسطاط، حيث يقف مسجد عمرو بن العاص كشيخٍ جليلٍ يمدّ ذراعيه لكل قلبٍ أنهكه الضياع.
كان الليل قد أرخى سدوله، لكنه لم يكن ليلًا كأي ليل، كانت السماء أكثر صفاءً، والنجوم أكثر قربًا، وكأنها تتأهب لموكب من الأنوار سيُقام في هذه البقعة الطاهرة. أمام البوابة العتيقة، وقفت لحظةً، أتنفس عبق التاريخ، وأصغي إلى همسات الزمن المتغلغلة في جدرانه.
"السلام عليك يا بيت الله، السلام عليك يا محراب العابدين".
دخلت، فغمرني برد اليقين. هناك، في باحة المسجد، كان الناس يتحلقون في صمتٍ عجيب، كأنهم ضيوف في مجلس سماوي. الوجوه متوضئة بالنور، والعيون معلقة بالسماء، والقلوب تهتف، وإن لم تنطق الألسنة.
حين يُسبّح الصمت باسم الله
جلستُ في الصفوف الخلفية، أراقب المشهد كمن يرى للمرة الأولى. هنا، لا تعرف من يجلس جوارك، فالفارق بين الأمير والمسكين يتلاشى عند العتبة، حيث لا صوت يعلو فوق تسبيح القلوب. كان المسجد أشبه ببحرٍ، والمصلون أمواج تتهادى بين قيام وسجود، كلما ارتفع صوت الإمام، اضطربت أفئدتهم كأنها شراعٌ يتلقف ريح الغفران.
كان يقرأ: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ"، فإذا بالأجساد تتهاوى على السجاد، وكأن قلوبهم لم تحتمل هذا العفو، فانكسرت عند بابه.
في حضرة ليلة القدر.. حين يُفتح الباب على مصراعيه
حينما أذن الليل بالنهاية، وجاءت ليلة السابع والعشرين، تحوّل المسجد إلى كعبةٍ تتوافد إليها الأرواح قبل الأجساد. خرج الناس من بيوتهم كأنهم يلبون نداءً لم يسمعه غيرهم، جاؤوا يحملون أمنياتهم، أوجاعهم، وخطاياهم، وألقوا بها عند عتبة الرحمن.
كنت وسط هذا الجمع، أنظر إلى الوجوه التي تبتل بالدموع، إلى الأيدي المرفوعة كأجنحة بيضاء، شعرتُ أنني لم أعد في الأرض، بل إن السماء قد انحنت قليلاً، حتى باتت بيننا، تلامس دعواتنا كما تلامس الأم بقايا الدمع في عين صغيرها.
أحاطني همس المصلين: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنّا" "يا رب، يا رب، يا رب"..
وكم كان جميلاً أن يُقال "يا رب" بهذا الخشوع!
كان الإمام يقرأ بصوتٍ يشبه بوح الأنبياء: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ"
وفي تلك اللحظة، شعرتُ بشيء لم أشعر به من قبل: كأن الهواء من حولي لم يعد مجرد هواء، بل أنفاس الملائكة، كأنني لو مددتُ يدي قليلاً، للامستُ نورًا يتنزّل، أو دعاءً صعد ولم يعد.
لماذا ليلة القدر هنا مختلفة؟
في مسجد عمرو بن العاص، تبدو ليلة القدر أكثر حضورًا، أكثر قربًا، أكثر امتلاءً بالمعنى. ليس لأن المكان قديم، ولا لأن الجدران تحمل بين مسامها أصوات الساجدين منذ قرون، بل لأن الروح هنا تجد ما لا تجده في مكانٍ آخر.
إنها ليست مجرد ليلة قال عنها المولى إنها خيرٌ من ألف شهر، بل هي لحظة تتوقف عندها الأكوان، حيث ينساب الغفران كالنهر. في هذه الليلة، لا تصدح الابتهالات داخل الجامع فحسب، بل تخرج من نوافذ البيوت، من فوق العمارات، من الأزقة الضيقة، من الشرفات العالية، من أفواه المارة الذين يتهامسون بالأدعية بين لحظة وأخرى. حتى حبات الرمل وطوب الأرصفة، الأشجار والمآذن، الجدران القديمة وشرفات البيوت، كلها تبتهل في صمتٍ خاشع، كأن المدينة كلها قد دخلت في صلاةٍ كونيةٍ لا تنتهي.
سمعتُ رجلًا بسيطًا عند باب المسجد يهمس: “يا رب، إن لم تغفر لنا الليلة، فمتى؟”
كانت كلماته أبسط من كل المواعظ، لكنها ضربت شيئًا في عمق روحي. شعرتُ أنني أفهم الآن لماذا هذه الليلة مختلفة هنا: هي حالة تجلٍّ وسمو نلتمسه في كل شيء، في ضوء القمر الذي يبدو أقرب، وفي قلوب الناس التي تنكسر لتنجبر بين يدي الرحمن.
فَسلامٌ هي حتي مطلع الفجر
مع بزوغ الفجر، خرجت من المسجد، لكنني شعرت أنني تركت قلبي هناك، بين الصفوف، تحت القبة، حيث يُقال اسم الله فلا يبقى للوجع مكان.
نظرت إلى السماء، كانت صافية كأنها ابتسامة الرضا، ثم نظرت إلى الطريق الممتد أمامي، فعرفت أنني لم أعد كما كنت، وأيقنت أنني كلما تهت، سأعود إلى حيث أنا ، سأعود بروحي إلى هذا الليلة، إلى هذا النور، إلى هذا السجود الذي يشبه العناق بين العبد وربه.
"يا الله، اجعل لنا في محرابك مقامًا، وفي رحمتك نصيبًا، وفي قلبك مأوى لا يُطرد منه العاشقون".

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
بوحٌ| ليلة العيد.. حين تسكن الأرواح بين الوداع واللقاء
30 مارس 2025 07:41 م
بوح| ربُّ الكون يريد قلبك.. في أدب الدعاء
24 مارس 2025 06:07 م
بوح| اليُتمُ النوراني: كيف صاغت حكمة الله قلب نبيه؟
21 مارس 2025 02:47 م
بوح| بين الناجي والضحية.. حكمة العابرين على جسر الألم
20 مارس 2025 04:34 م
أكثر الكلمات انتشاراً