الخميس، 21 نوفمبر 2024

08:46 م

أليس لي ملك مصر؟!

تأسرني الآية الكريمة "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون"، وأسرح بعيدا بخيالي مسافرا عبر الزمن إلى الماضي السحيق حين وقف ملك هذه البلاد متباهياً بين قومه بعظمة الأرض التي يحكمها.
"مصر" يا لجمال الاسم، وحلاوته في النطق، وقيمة الوطن الذي يعبّر عنه.
 

أذكر ذات مرة أنني كنت في رحلة بإحدى الدول الأوربية، وزرت مزارًا أثريًا بالغ الروعة، فأعربت عن ذهولي بذكاء تصميم المكان أثناء شرح المرشد السياحي تاريخ بنائه، ففاجأتني بسؤال عن جنسيتي، 
أجبتها بأنني مصريّ، فنظرت إليّ باستنكار، قائلة “كيف تنبهر هكذا وأنت قادم من موطن الإبهار.. لا يمكن أن يذهلني شيء في العالم لو كنت مصرية!”.
وأخبرتني أنها زارت مصر خمس مرات، ولا تزال تشعر بعدم الاكتفاء، وسوف تزورها مجددًا مرارًا وتكرارًا، لأنها وجهتها المفضلة على الإطلاق.
أدرك جيدًا أن حديثي يبدو عاطفيًا في توقيت تختلط المشاعر بين الغضب والضيق والتململ من وضع البلاد، لكن أؤكد لكم أنها ليست من قبيل الرومانسية أو الحنين إلى الوطن من شخص يسافر كثيرًا ويعيش خارج بلاده فترة طويلة من الوقت، لكن من المهم أن يذّكر كل منا الآخر بأننا نملك وطنًا عظيمًا مرّ بكثير من المحن، لكن لم ينتقص ذلك من قدره وقيمته.
لا شك أن هناك حالة عامة من القلق، والسؤال الذي لا يخلو منه مجلس خصوصًا من المقيمين في الخارج.. إلى أين تسير مصر؟!
والإجابة - بكل أمانة- بالغة الصعوبة، فالأوضاع داخليًا وخارجيًا ليست على ما يرام، إذ تمرّ بلادنا بظروف معقدة للغاية، بين تحديات اقتصادية، يقرّ بها الجميع، حاكمون ومحكومون، وحالة من التوتر المتصاعد تمر بها المنطقة، وتنعكس علينا مباشرة، سواء عبر الحدود الشرقية الملتهبة في غزة، أو التهديدات التي تعصف بالبحر الأحمر، وتؤثر على قناة السويس، أهم مرافقنا وأحد المصادر الرئيسة للعملة الصعبة، فضلاً عن جنوب غير مستقر وغرب ليس على أفضل حال، وحركة تجارة عالمية مضطربة!!
وكل ما سبق ليس عذرًا بالتأكيد لحكومة لا تؤدي بما يتناسب مع الواقع الصعب أو التحديات الضخمة التي تحدق بنا من كل اتجاه، ومنْ يقول غير ذلك يكذب على نفسه وعلى الناس ويدفن رأسه في الرمل مثل النعام!
 

ومع ذلك، فأنا على يقين تام بأننا سنتجاوز ذلك، لأن مصر مرّت فعلاً بما هو أسوأ، ويمكن القراءة عن الشدة المستنصرية، التي ضربت بلادنا في مستهل النصف الثاني من القرن الخامس الهجري من تاريخ الدولة الفاطمية، نتيجة جفاف نهر النيل لسبع سنوات متواصلة، فتصحّرت الأرض، وهلك الحرث والنسل، وجاع الناس، وعمّ الغلاء، حتى أكل الناس الجيفة والقطط والكلاب!!
وتجاوزت مصر ذلك، وساد الخير فيها مجددًا، لأنها وطن أصيل، متنوع الموارد والثروات، ولديّ قناعة لا يمكن أن أتخلى عنها إطلاقًا أن أهم ثرواتها هو شعبها، فهناك دول عدة تعتمد على الأيادي العاملة الأجنبية وتتكلف كثيرًا لهذا السبب، لكن لدينا ملايين الشباب، لو تم الاستثمار فيهم بطريقة مناسبة وعلمية سوف نحقق قفزات هائلة للمستقبل، خصوصًا لو ضاعفنا اهتمامنا بقطاعات الصناعة والتقنية.
نحن الآن على متن سفينة في بحر متلاطم الأمواج، لا خيار لدينا سوى التكاتف والتعاون حتى نعبر إلى شاطئ الأمان، وأؤمن أن هذا التوقيت يستلزم منا الصدق والمصارحة، والاعتراف بصعوبة الموقف، لأن البديل - لا قدر الله- مخيف في ظل هذه الظروف.

أتلقى مئات الطلبات من معارف وأشخاص لا أعرفهم يطلبون المساعدة في توفير فرص عمل لهم بالخارج، ولا يمكن أن ألوم أحدًا رغم أن هذا أمر مؤسف، لكن حين ندرك قيمة انتمائنا إلى وطن مستقر، حتى لو كان يعاني الآن مثل غيره، أفضل من أن تنقطع بنا السبل ونحن بعيدون عنه، ونخسر هذا الوطن!
وهذا ليس كلامًا بلاغيًا على الإطلاق، أو تنظيرا على شخص يعاني، لكن مصر ستظل دائمًا رقمًا مهمًا في تصنيف أفضل الأوطان، بكل ما تحمله على ظهرها من هموم ومعاناة!
يمكن أن ننتقد الإدارة لكن إياكم والتقليل من شأن بلادكم، إذ يقع البعض بكل أسف حين يسافرون إلى الخارج، في فخ المقارنات، ويقللون من قيمة بلادهم، ويتحدثون عنها بكثير من الوضاعة والصغار، وهم بلا شك يعبرون عن الإناء الذي نضجوا فيه!
أنا أهيم عشقُا بمصر، وأحاول التشبّع بكل تفاصيلها حين أزورها، فلها رائحة المسك المعتق منذ آلاف السنين، ويمكن أن تشعر حين تسير في شوارعها بعظمة حضارتها التي تضرب جذورها في أعماق التاريخ.
لا يعنيني كثيرًا، ولا أبالي بمن يعبرون عن سخطهم على بلادهم بشكل أو بآخر، فحين ندرك قيمتها سوف نصبر، أو نُجنّبها على الأقل أسطوانة اللوم والغضب وجلد الذات التي يدمنها هؤلاء الذين يعيبون بلادهم والعيب فيهم. 
وكيف أبالي بمن يقلل من قيمة مصر، فيما يحضرني دائًا مشهد عزيزها وهو يقول متفاخراً “أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي”.. إنها مصر، أفلا تعقلون!

search