الجمعة، 22 نوفمبر 2024

09:55 ص

اللهم إني صائم!

لا تقتصر دراما رمضان فقط على المسلسلات والأعمال الفنية التي تستهلك من الشهر الكريم أكثر من الفترة التي نصومها، لكنها تطغى عادة على الوجوه العابسة المكفهرة للموظفين في معظم الجهات الحكومية، وحرص فئة غير قليلة منهم على ترسيخ الشعور بالذنب لدى المواطن البائس لقدومه وطلبه الخدمة دون شفقة أو رحمة أو مراعاة للموظف الصائم!
يقف المواطن مرتبكاً خجولاً خائفاً من رد الفعل، يكاد أن ينحني على يد الموظف ليقبلها حتى ينهي له المعاملة، متحملاً اللوم والتقريع بالنظر أو بعبارة "اللهم إني صائم" وكأن أجر صيام الموظف سوف يخصم منه وينقل إلى رصيد المواطن المسكين!
قصدت ذات مرة جهة حكومية، ووقفت ملياً أمام نوافذ المعاملات، أتخير موظفاً ينطق وجهه بالسماحة، وتوجهت بالفعل إلى أحدهم، وبعد تردد قلت له بكل ما أوتيت من أدب وصوت خفيض " عندي استفسار من فضلك"
لكنه لم يرد، فظننت أنه لم يسمعني، ورفعت صوتي قليلاً، من فضلك عندي استفسار، فرد دون أن يكلف نفسه بالنظر إليّ، "اللهم إني صائم" وكانت الإجابة شافية ووافية وكافية لأتراجع بكل حكمة مفضلاً الاحتفاظ باستفساري لنفسي!
قضيت سنوات طويلة من عمري محاولاً فهم المغزى من تكرار هذه العبارة، في المواصلات، والمرافق الحكومية، أو الشارع حين يتعرض أحدنا لاحتكاك أو موقف اعتيادي يمكن أن نمرره بسهولة في الأيام العادية..
"اللهم إني صائم" عبارة تقريرية لا أستوعب لمن نوجهها، هل نخبر المولى عز وجل بحالنا، على اعتبار أنه غير مطلع عليه، أم  أنها تعبر عن نوع من التميز والاستثناء، ويجب أن نصفق لصاحبها على الخدمة الجليلة التي يقدمها للمجتمع بصيامه!!
الطريف في الأمر أن هذه العبارة تستخدم عادة قبل المشادات والمشاجرات، وتكون أقرب إلى نوع التحذير الاستباقي الذي لا يستغرق وقتاً طويلاً قبل أن ينطلق صاحبها في وصلة ردح او شتائم من العيار الثقيل، أو التصفيق على وجه الطرف الآخر!!
تسمع هذه العبارة أيضاً حين نرى شخصاً مفطراً في نهار رمضان، ومن الوارد أن يكون غير مسلم، أو مريض أو امرأة حامل، أو "ملحد يا سيدي" .. يجب أن نقولها بهذه الطريقة "ملحد يا سيدي"!!
وفي هذه اللحظة انظر حولك، وسوف ترى عيوناً تتقد شرراً، وتسمع العبارة الرنانة "اللهم إني صائم"
وحين تحاول التخفيف من حدة الموقف، يرد عليك أحدهم بكل استنكار، "وهل يرضيك هذا السلوك، هذا المفطر لا يراعي ظروفنا ويجرح صيامنا!
وهذه مسألة أخرى لم أستوعبها حتى الآن، ما هو المقصود "بجرح الصيام" وما هو حجم الضرر والمعاناة التي تقع على شخص صائم حين يتواجد مع آخر مفطر، فما المغزى أصلاً من الصوم إذا كان خالياً من المشقة والصبر!
وطالما حدثت نفسي صغيراً، بأن المسلمين الذي يعيشون في أوروبا وأمريكا محظوظون بصيامهم، لا شك أنهم يحصدون أضعاف حسناتنا في ظل ممارستهم العبادة الشاقة وسط شعوب مفطرة، تجرح صيامهم في كل مكان!
وحين كبرت أدركت كم نحن مبالغون "أوفر" ندمن ادعاء التضحية في كل شيء، حتى لو كانت عبادة يفترض أن نمارسها بصبر وطمأنينة، في ظل أن الصيام يهذب النفوس ويزكيها ويلطفها.. حسبما أخبرنا الأولون!
كنت أؤثث منزلاً ، واعتذر لي مهندس الديكور عن توقف الأعمال خلال الأيام الأولى من شهر رمضان، لحرص العمال على قضائها مع ذويهم في المدن والقرى التي ينتمون إليها، قلت "عادي" طقس رمضاني يجب أن نقدره..
ثم أبلغني بأن وتيرة العمل سوف تسير ببطء خلال الشهر، فأبديت تفهمي معتقداً أن السبب هو صعوبة ممارسة الأعمال اليدوية الشاقة مع الصوم، ففاجئني بأن كثيراً من العمال لا يصومون، لكنهم أيضاً لا يفضلون العمل نهاراً حتى يتفرغوا لمشاهدة المسلسلات طوال الليل، وقضاء ليالي السمر اللطيفة في الشهر الكريم، أي أنهم يحصلون على رخصة الإفطار دون ممارسة المترتب عليها.. رائعون!!
لا يختلف أحد على أن الصوم عبادة شاقة، لكن أعتقد أن المشقة مضاعفة حين كان المسلمون ينتقلون على الأحصنة والجمال وسط رمال الصحراء، ويعتمدون في التكسب على الأعمال اليدوية، 
فلنعترف أن الظروف مختلفة الآن، ومن الممكن أن ينقضي النهار قبل أن ننتهي من تصفح منصات التواصل الاجتماعي، أو مشاهدة هذا السيل الجارف من المسلسلات الرمضانية، لذا دعونا لا نبالغ في الشكوى والتذمر، مع كل التقدير لهؤلاء الأبطال الذي يصومون رمضان..
 

search