الجمعة، 22 نوفمبر 2024

08:54 ص

أنا المحامي..

بعيداً عن الأداء الكرتوني للفنانة مي عمر في مسلسل "نعمة الأفوكاتو" تظل مهنة المحامي، أكثر المهن ثراء في الأعمال السينمائية والدرامية المصرية والعالمية، وساهمت كثيراً في صناعة نجومية عدد كبير من الفنانين،
وكانت سبباً في تخليد أدوار بعينها مثل شخصية "فتحي" المحامي العبقري التي أداها الزعيم عادل إمام في فيلم طيور الظلام، والدور الذي قدمه المبدع العظيم محمود المليجي  في رائعة يوسف شاهين "اسكندرية ليه" والعبقري أحمد زكي في فيلم ضد الحكومة، وغيرهم من نجوم أبدعوا في لعب دور المحامي، وساعدهم في ذلك مؤلفون وكتاب سيناريو تعمقوا في دراسة الشخصية وبنائها الواقعي والدرامي.
وللمحاماة في السينما العالمية نصيب أعظم وأفضل من الأعمال العظيمة التي تحبس الأنفاس، وتعكس حجم الإثارة التي تميز هذه المهنة، بحكم ما يمر به المحامي من تجارب، وما تفرضه عليه وظيفته من الغوص عميقاً في مشكلات الناس وتعقيدات حياتهم، مع الاحتفاظ بأناقته وتعلق الأنظار به حين يترافع، محاولاً تحويل الدفة لصالح موكله.
المحاماة مهنة سينمائية في المقام الأول، وما لا يعرفه كثيرون أن المحامي يحاكي "يمثل " المرافعة التي سوف يقوم بها، خصوصاً في القضايا الكبرى، فيقف أمام مرآته أو معاونيه، متقمصاً شخصيته الأخرى التي تقف أمام منصة القضاء أو الشهود أو المحلفين في الخارج.
ولعل الأشهر في ذلك على الإطلاق الراحل فريد الديب، فحين تشاهده في البرامج الحوارية تدرك حجم الكاريزما التي يفترض أن يتمتع بها المحامي، حتى تظن في كثير من الأحيان أنه نجم سينمائي، وليس محامياً تولى أصعب القضايا وأكثرها إثارة للجدل.
وسيقف تاريخ المحاماة كثيراً في مصر أمام الأستاذ الراحل الجليل رجائي عطية، وأعتقد أنه موضوع لعمل درامي مهم، فلم تقتصر أمجاده على صولاته وجولاته داخل المحاكم، لكنه كان مدافعاً كنقيب للمحامين عن بني مهنته، لذا قبض الله روحه في أحب الأماكن إلى نفسه، داخل قاعة المحكمة في عمر 86 عاماً.
رجائي عطية حصل على خاتمة تليق به، داخل محراب العدالة، مرتدياً الروب الأسود الأنيق، أليست بالله عليكم أفضل من أي نهاية يمكن أن يختارها مخرج سينمائي كبير.
ويظل مسلسل "سوتس" بنسختيه الأجنبية والعربية نموذجاً للمستقبل الذي يتمناه أي شاب يلتحق بكلية الحقوق، بأبطاله بالغي الوسامة والأناقة، والقضايا المعقدة التي تدر عليهم أرباحاً خيالية، وسكرتيراتهم الجميلات، ولا يسعك كمحامي سوى أن تسرح بخيالك متمنياً أن تكون جزءًا من هذه الحياة..
وبالانتقال إلى الواقع، وكمحامي أجزم أن مهنتنا جديرة بهذا الزخم السينمائي والدرامي، ففي كثير من المواقف تجد أن ما نتعامل معه يفوق تصورنا للمنطق، وإدراكنا لما يمكن أن يجنح إليه الإنسان، خصوصاً عند ارتكاب جرائم كبرى مثل القتل والاغتصاب وغيرها.
ودون ذنب يرتكبه، ينال المحامي في كثير من القضايا نصيباً من اللعنات بسبب الفعل الذي ارتكبه موكله، لذا ظلت قضية الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام تطارد فريد الديب حتى وفاته، لكنه ظل يدافع عن موقفه إيماناً منه بأن هذه هي طبيعة مهنته!

ولا يخلو الأمر من الطرافة في دعاوى الأحوال الشخصية، ففي حين أن هناك فئة من المحامين يرفضون هذه القضايا لما تشهده من فجور في الخصومة بين أشخاص كانوا متحابين ومتوادين بالأمس، وانقلب كل منهم على الآخر، خصوصاً الأزاج!
يحترف نفر آخر من المحامين الدعاوى الأسرية، بل أن منهم الذي يصنف كمحامي طلاق، نذير شؤم  تطارده اللعنات متى حل، وتلاحقه الاتهامات دائماً بأنه على علاقة بموكلته إذا كان محامياً للزوجة في القضية!
المحاماة مهنة ممتعة مليئة بالتفاصيل، ولا يمكن أن تصف شعور المحامي بعد دراسته للقضية وسهره عليه، حين يصل إلى الثغرة التي يدرك جيداً أنه سوف تقود الأمور لصالح موكله، إذ يتدفق الإدرينالين بقوة في جسده، ويشعر بإثارة رجل يحظى بأجمل النساء.. 
وهناك قضايا بعينها لا يمكن أن تمحى من ذاكرة كل محامي، تشعره أنه أدى دوراً استثنائياً، وخلق من العدم وجود، ومن الخيال حقيقة، وصنع واقعاً جديداً لم يتصوره موكله.. 
ويتمنى في هذه اللحظة أن يحل محل الرائع أحمد زكي في فيلم ضد الحكومة لكي يصرخ قائلاً .. أنا المحامي..

search