الإثنين، 25 نوفمبر 2024

08:08 ص

يا قمر يا رغيف بعيد.. الفقير ليه مش سعيد؟!

صورة تعبيرية

صورة تعبيرية

أنا الخبز الذي تتحدثون عنه، ولا تعرفونه حق المعرفة.. أنا الرغيف والغموس على مائدة الفقراء.. أنا الذي قدسني المصري القديم، ورسمني على جدران المعابد كما يرسم الآلهة، ووضعني في مقابر الملوك لأكون لهم زاد الجنة في رحلة الخلود.

أنا النعمة التي تدعون الله بعدم زوالها، وأنا اللقمة التي إذا وجدها أحدكم على الأرض يرفعها، وينفض عنها التراب، قبل أن يقبلها ويضعها على جبينه، ويصونها في مكان علوي كما يفعل مع ورقة مصحف.

أنا العيش مرادف الحياة، ورمز العشرة، وكلمتكم الرابحة في ثورة 25 يناير، وبطل معارككم التي لا تنتهي في عالم الشقاء، وأنا هدف المواطنين الأسمى في طوابيرهم اليومية أمام الأفران .. أنا مضرب الأمثال في كل زمان ومكان. 

أنا واحد متعدد الأشكال والألوان والطعم والأسماء.. أنا الشمسي، وأبو قرون، والمرحرح، والبطاطى، والبتاو، والبط، و البامية، و البكوم، الهبورية، والكسره، والدامبرت، والشد،  الخنريت، والدوقه، والكابد، والخامر، والمجردق الفينو.

أنا العيش الذي تعرف المرأة الصعيدية قيمته كما تعرف الرجال، تخصص له حجرة في البيت تحتفظ فيها بالدقيق قبل العجين، والأرغفة بعد الخبيز، والأواني التي تستخدمها في إعداده، وتفرض على البيت حالة من الطوارئ في الصباح وهي تعجن، وتقطع الأرغفة، وتجلس أمام الفرن تواجه ألسنة النيران بالصبر وإشباع فضول الصغار.

في كل مكان باسم مختلف 

أنا العيش الصعيدي أسمر مدور بثلاثة قرون أؤكل طريا طازجا وأقطع شرائح ثم أدخل الفرن مرة أخرى ليتم تحميصي، وأنا العيش الفلاحى المرحرح والبطاطى والبتاو والبط خبز يصنع من الذرة بإضافات قليلة من القمح.

 موجود كلما وجد الناس من الوجه البحري إلى الوجه القبلي، ومنتشر فى اغلب قرى الشرقية وفى الإسماعيلية فى الغربية والدقهلية يعرفوني باسم البامية، لأنهم يضيفون طحين البامية إلى دقيق الخبز، وفى كفر الشيخ يتم خلط الدقيق بالشعير أو الأرز نظراً لانتشار زراعة الشعير والأرز هناك. 

أنا البكوم من دقيق القمح ونفس عجينة الخبز البلدى الطرى، في حين اعتمد في عجينتي على الشعير فى الوادى الجديد وخاصة الخارجة.

أنا البتاو – الكلمة المصرية القديمة – التي تعنى الخبز ويطلقونها على المرحرح (رقاقات صغيرة الحجم تصنع من الدقيق واللبن) فى محافظة الشرقية.

وأنا الهبورية والكسرة وهى خبز من الذرة والردة وبعض القمح فيما تختلف الكسره عن الهبورية فى أن الكسره اكثر اتساعا من الهبورية وتنتشر فى البحر الأحمر إلى جانب العيش الشمسى ذو الأربعة قرون ويسمى أبو قرون، وهناك نوع من الخبز يخبز على الحجارة وينتشر فى منطقة حلايب بالبحر الأحمر وهو الدامبرت

وفي توشكى وأسوان يطلقون عليّ الشد وهو خبز من الذرة والقمح رقيق فى سمكه ويخبز فى الدوكا الصاج، كما يصنع الخنريت من دقيق الذرة العويجه ودقيق القمح كما يطلقون عليه "الدوقة" فى منطقة كلابشه بأسوان ، والكابد مثل الشدى إلا انه اكثر سمكاً منه وهو أيضا موجود فى توشكى.

وفي شمال سيناء أعرف بالصاج وهو خبز رقيق من دقيق القمح يبلغ قطره 45سم وسمكه 2 ملل، بينما الخامر خبز يصنع فى البيت ويكون فى حجم الرغيف البلدى.، فيما يعتبر المجردق خبز طوارىء يصنع بدون خميرة ويسوى على الصاج وهو يشبه الرقاق إلا انه يؤكل طريا وينتشر هذا الخبز فى مطروح.

مسمياتي تختلف من مكان إلى مكان، النوع الواحد فى بعض الأحيان يأخذ مسميات مختلفة باختلاف المنطقة التى أوجد فيها، بخلاف بعض أنواع الخبز التى تصنع خصيصا لمناسبات وأغراض خاصة غير الغرض الرئيسى للخبز ليغمس به الطعام.

زاد الخلود

أنا الخبز قرين الحضارة، يمكنكم مشاهدتي في مقبرة  سقارة التي وجد فيها المتوفي وأمامه أرغفة الخبز المنحتوتة على الجدران، كما تم العثور على أول رغيف فينو طويل (الفرنساوي).

حرف التاء في اللغة الهيروغلوفية يعني نصف رغيف عيش مستدير واسم الخبز بالهيروغليفي (ت) والخبز الأبيض ت حيدج، كما أن المصري في المتحف الزراعي بالدقي وجد معه أول رغيف بداخله أشياء تؤكل (الحوواشي) ووجد معه أيضا أول كرواسون فرعوني محنط وجاف،

ابتكر الفرعوني أول فكرة بيتزا، حيث وضع الرغيف مستديرا وعليه بعض الأطعمة، واستخدم الزهور التي لها طعم في عمل أرغفتي ، فصنع مني رغيفا على هيئة كعكة منتفخة.

أنا الخبز الذي منحت المرأة المصرية الخلود بتماثيل الفلاحة وهي تعجن في الماجور، ومناظر منحوتة لفرن، وسيدة ترضع طفلها وتضع يدها على جبهتها كدليل على معاناتها أمام النار.

تعددت أشكالي في مصر القديمة، منها ما يشبه المثلث، ومن ضمن النظريات المكتوبة أن اليونانيين يعتقدون أن الهرم يشبه مخبوز معين في بلادهم وهو ما جعل اسمه مرتبط بالمثلث (الفطيرة المثلثة)، كما احتوت القرابين والهدايا على أعداد كبيرة من الخبزبنوعيه الأبيض والأسمر، ويوجد بالمتحف المصري ساندوتش ملفوف كهدية..

مصرب الأمثال 

أنا العيش مضرب الأمثال فى منظومة قيم الجماعة الشعبية ومنها: قفاه يقمر عيش - إدى العيش لخبازه ولو ياكل نصه - الجعان يحلم بسوق العيش - اللى ياكل عيش اليهودى يحارب بسيفه. . اللى ياكل عيش السلطان يضرب بمزماره.

كل مثل يقدم إضاءات مهمة لا تخلو من إشارات اجتماعية وسياسية وأنا  المفردة المشعة داخل التركيب اللغوى، فضلا عن الرقى التى تتغنى بها السيدات وهن يقمن بعملية العجين والخبيز: يا عجين اخمر وفور. . واملا الفرن فرح ونور. 

 ودوما يكون هناك تشهد على العجين والصلاة على النبى مع خروج العيش من الفرن. كما أرتبط  بالعادات والتقاليد حيث يتم توزيعي كنفحة مع اللحم والأرز فى موالد الأولياء أو كرحمة على روح الميت، كما يوضع رغيف مع سكينة تحت مخدة المولود الجديد درءا لشره فتخيفه السكين، وإذا كان جوعانا فعليه برغبف العيش ليبتعد عن المولود وكانت السيدات ترسل للحداد سبعة أرغفة تم شحاذتها من سبع فاطمات .. أى رغيف من كل فاطمة ليقوم بدق خلخال للطفل المولود ليدرأ عن العين

راعي الثورات

أنا السبب في أول ثورة زراعية جعلت من مصر قبلة للجوعى حين عم القحط في أنحاء البلاد، وكانت مصر صومعة للغلال فصدها الناس أفواجا من كل الأنحاء، والشعار الأول لثورة يناير 2011 التي خرج فيها الملايين من أبناء الشعب لإزاحة نظام جعلهم يقتتلون أمام الأفران من أجل الحصول على رغيف خبز من المفترض أنه حق من حقوقهم المشروعة.

أنا الخبز من يجتمع حولي  المصريون في المناسبات المختلفة، سواء في الأعياد أو في شهر رمضان الكريم.

زمن مضى

أنا رغيف الخبز الذي ظللت ثلاثين عاما بخمسة قروش، يتغير الزمن ولا يتغير ثمني، يتبدل الرؤساء وتتوالى الحكومات، وأبقى مكاني ثابتا في صف البسطاء، أنقض اليوم عهدي معهم، حتى إذا جاء الصباح وجدوني أمامهم بـ20 قرشا، ذلك المبلغ الزهيد في عيون السيد المسؤول، والكبير في عيون الجائع الفقير. 

--

مصادر التقرير:

دراسة أطلس للمأثورات الشعبية (شارك في إعدادها باحثون في محافظات مختلفة)

الباحث في الفولكلور الشعبي مسعود شومان 

المؤرخ وكاتب المصريات بسّام الشماع 

الدكتورة حنان سالم أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس 

search