السبت، 05 أكتوبر 2024

10:39 ص

أوراق العمر لـ مجدي يعقوب.. عبدالناصر وسطح سفينة وقبطي لم يُضطهد (3)

الدكتور مجدي يعقوب

الدكتور مجدي يعقوب

تامر إبراهيم

A A

عند الترحال بين أحرف صفحات التاريخ المصري، سيكون الدكتور مجدي يعقوب حاضرًا بكل تأكيد، والأمر هُنا غير مرهون بقيمة علمية وطبية كبيرة فقط، بل مقرون بسيرة إنسان كان يجول يصنع خيرًا، ملهمًا ومتواضعًا وباعث أمل في نفوس الملايين.

تحت عنوان «مذكرات مجدي يعقوب.. جراح خارج السرب» كتب سيمون بيرسن وفيونا جورمان، وهما زوجان عملا في صحيفة «التايمز» 30 عامًا، أول سيرة ذاتية للدكتور مجدي يعقوب، وكتب مقدمتها في النسخة العربية الدكتور محمد أحمد غنيم، رائد زراعة الكلى في العالم، والدكتور مصطفى الفقي، رئيس مكتبة الإسكندرية السابق، والدكتورة ماري آرتشر، عضو مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية.

وتحت عنوان “أوراق العمر لـ مجدي يعقوب”، نعيد قراءة سيرة “طبيب القلوب” في حلقات ينشرها “تليجراف مصر”، فإلى الحلقة الثالثة..

عبدالناصر.. تكريم ومعارضة

في صيف عام 1957، ناهز مجدي يعقوب الـ21 من عمره، ولنوبغه العملي، اعتلى منصة التكريم بجامعة القاهرة التي تم تغيير اسمها القديم (جامعة الملك فؤاد الأول)، وتلك المرة نال تكريمًا من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لكونه من أوائل طلبة الطب في الجامعة.

لقاء عابر ارتسمت فيه البسمة وجه الاثنين، جيل يفصل بين الاثنين، غير أنه مثلما كان الزعيم عبد الناصر يُغير العالم، سيغيره كذلك يعقوب، ولكن في مجال مختلف، وعلى نحو شديد الاختلاف. بحسب المذكرات.

مثالية الطالب مجدي يعقوب، اتسقت مع شعارات عبدالناصر القوية المناصرة للمساواة والعدالة وحقوق الفقراء، ولكن لُب الخلاف كانت اشتراكية «ناصر» التي لم تنسجم مع طموحات مجدي يعقوب.

حينما سئل يعقوب عن سبب رحيله عن مصر في عهد عبدالناصر، قال: “كنا ندرك أن في مصر من ينعمون بالكرامة، ومن حيل بينهم وبين الكرامة، لكن عبدالناصر حاول أن يتيح التعليم للجميع، فتهاوت من جراء ذلك المعايير، وإذا بحَلَ عبدالناصر يُجهض التميز. كان تعليم الطب في القاهرة رائعًا فقوام كل دفعة من الطلبة كان ستين طالبًا فقط. ولكن عبدالناصر قال إن التعليم الجامعي حق للجميع، وفتح البوابات بغتة على مصاريعها فتدفقت الجموع، وإذا بنا بعد أن كنا ستين طالبا نصبح ألفا، وإذا بالطلبة يتدلون من الأسقف يحاولون أن يستمعوا إلى ما يقوله المحاضرون فلم يبقَ للجودة والتميز من مجال".

جراح بقصر العيني

وبعد حديثه العابر مع عبدالناصر ، قضى يعقوب حوالي 3 سنوات جراحًا عاما في مستشفى قصر العيني الجامعي، فكان مقيما بالمستشفى 24 ساعة في اليوم و7 أيام في الأسبوع، وكان يتولى نوبة الليل ليلة بعد ليلة بالتناوب.

يسرد مجدي: “عشت في المستشفى، وطاب لي ذلك. كنت أعمل بجد وأجري الكثير من الجراحات. في السنة الأولى كنا نساعد في العمليات، ثم بدأنا نجريها في السنة التالية بمفردنا”.

لا اختلط بالسياسيين.. تركيزي على الإنسانية

ثمة علاقة طردية بين مجدي يعقوب والساسة، فالطبيب الشاب اجتنبها بشكل كبير، حتى خلال أزمة السويس سنة 1956 حينما غزت بريطانيا مصر بالتعاون مع فرنسا وإسرائيل بعد تأميم قناة السويس، حافظ يعقوب على بعده. ولما عينته منظمة الدفاع المدني وأرسلته إلى القناة ضمن الفريق الطبي، ظل يتحاشى المظاهرات والاحتجاجات.

يقول مجدي: “لم أحب أن أختلط بالسياسيين. فقد انصب تركيزي على الطب والإنسانية. ولم أحد قط عن هذا الموقف”.

وفاء لأساتذته

يحمل مجدي يعقوب بين أضلعه وفاء كبيرًا لمن علموه يومًا، إذ يرى نفسه رجلا سعيد الحظ لأنه عرف كلية الطب في جامعة القاهرة خلال عصرها الذهبي، ونشأ في قلبه حبًا غامرًا لأساتذته.

يروي مجدي: “كان وجودنا في كلية الطب مصدر حماس كبير لنا، وكنا مولعين بأساتذتنا ونُكن لهم احترامًا كبيرًا، فقد كانوا رفقاء بنا، كما كانوا ذوي شأن عظيم في المهنة”.

العديد من الأساتذة تركوا أثرًا في نفس “ابن يعقوب”، منهم جليب فاسيليفيتش فون آنريب، وهو روسي وكان عالمًا فذًا انتقل في عام 1930 إلى القاهرة، والتقى بأرملة إيطالية فتزوجها، ولما توفيت إثر عضّة كلب تزوج أختها.

تعلم مجدي يعقوب من آنريب العمل لساعات طويلة، وهو الأمر الذي أورثه يعقوب لكل من عملوا معه، ويروي مجدي: “إننا في ذلك الوقت لم نكن نخلو من سذاجة، فعلمنا الكثير من الأمور التي تُعد أساسيات في الطب، وأجرى الكثير من العمل التجريبي في قسم وظائف الأعضاء. بتُ أفهم أن وظائف الأعضاء مسألة ديناميكا، وأنها تُفسّر عمل الجسم الحي. أكد لنا قيمة التجريب في فهم وظائف الأعضاء، وكنا نكن له قدرًا رهيبا من الاحترام”.

لم يكن الروسي وحده من ترك أثرًا في نفس المصري، لكن أيضًا البروفيسور علي حسن، أستاذ الكيمياء الحيوية، فالطبيب الكبير كان يزور أبناء القرى الواقعة خارج القاهرة لدراسة أنماطهم الغذائية بحثًا عن النواقص المؤثرة على صحتهم، موضحًا لتلاميذه الأسباب الداعية إلى ضرورة الاستمرار في هذا البحث على مدار زمن طويل.

يحكي مجدي عنه: “كان مبهرا لنا. بتُ أعرف أن الطب يتصل بالمجتمعات مثلما بالعلم والكتب، وحُفر ذلك في عقلي”.

سباحة وتنس وموسيقى وأوبرا

عاش مجدي يعقوب وشقيقه “جيمي” في شقة مطلة على النيل، كانا ينعمان بحياة جديدة خلال دراسة الطب وبعد التخرج. تمتعا باللياقة والقوة والانخراط الاجتماعي، فكان مجدي يذهب للسباحة ولعب التنس، ويواصل اهتمامه بالموسيقى الكلاسيكية بتذاكر لا تكلفه غير قروش في دار الأوبرا بوسط القاهرة.

حب مجدي للموسيقى دفعه للاشتراك في جمعية الموسيقى الكلاسيكية الوليدة في كلية الطب، فاستمتع بالاستماع إلى مقتطفات من دون جيوفاني لموتسارت على الفونوجراف مع شروح للأوبرا نفسها من زملاء له في الكلية.

يحكي مجدي: “لقد كنا نجد في العمل، ونحظى أيضًا بالكثير من المرح”، وربما هذا كان عاملا حاسمًا في سفر الشقيقين إلى أوروبا.

السفر على سطح سفينة

استغل الشقيقان إجازتهما في السفر إلى الإسكندرية وحجز تذاكر رخيصة في سفن الركاب للترحال إلى أوروبا، فيقول مجدي: “لم تكن لنا مقصورات للنوم، لكن كانت معنا حقيبتا النوم، فكنا ننام على السطح. ونذهب أولا إلى بيرايوس، ومنها إلى مرسيليا، وبعدها إلى باريس، وكان كل ذلك بالمجان تقريبًا، ثم نرجع محض استكشاف. أعتقد أن عمري كان سبعة عشر عاما حينما قمنا بتلك الرحلة للمرة الأولى”.

قبل التخرج، زار يعقوب أيضًا السويد والدنمارك، وهناك التقى بجراح القلب البروفيسور کلیرنس کرافورد، والبروفيسور إريك ها سفلت في ريجشو سبيتالت بكوبنهاجن. وكان هاسفلت جراحًا رائدًا من أوائل من أجروا جراحة القلب المفتوح، التي يُفتح فيها الصدر وتجري الجراحة على عضلات القلب أو صماماته أو شرايينه. وقد شاهده يعقوب وهو يعمل، وروى أن ذلك كان ملهما إلى أقصى حد.

بدأ يتابع أيضًا عمل البروفيسور السير راسل بروك، وكان يعمل في مستشفى جاي وبرومبتون الملكي في لندن، وكان رائدا في جراحة القلب المفتوح وعلاج ضيق الصمامات، وكان أيضًا يتبنى البحث العلمي، إذ قام ببحوث موسعة، ما جعل مجدي يريد العمل معه، بحسب قوله.

جُرح فقدان الأب

لم يكن الأب “حبيب” موافقًا على فكرة هجرة مجدي إلى أوروبا، كان يرى أن أمامه مستقبل مشرق في مصر، ولا يريده أن يترك أسرته.

بدأت صحة الأب تتدهور بسبب السكري وارتفاع ضغط الدم، حتى أصيب بسكتة قلبية حادة مصحوبة بفشل كلوي في عام 1959. نقل إلى مستشفى خاص في القاهرة ثم ظهرت عليه بوادر شفاء، قبل أن تضربه السكتة القلبية مرة أخرى.

يحكي مجدي: “وجدت نفسي منغمسًا في مناقشات حول كيفية إنقاذه، ولكننا لم نكن نحظى في تلك الأيام بشيء، لا بالمعرفة ولا بالأدوات وبالنسبة لشخص راغب في أن يكون جراح قلب وأوعية دموية، كان ذلك أمرًا مدمرًا. لم أستطع أن أمدَّ لأبي يد العون. فكم كان وجعا لا يحتمل”.

وبينما يمكث مجدي بجوار والده في الغرفة، يوم 30 يوليو 1959، رحل والده وهو في الثامنة والخمسين من العمر.

قبطي لم يٌضطهد

بعد وفاة الوالد، واصل يعقوب استعداده للسفر إلى بريطانيا، مقرا أن قراره جاء خلافًا للاعتقاد الشائع كونه مسيحيًا قبطيًا. ويروي: "تشيع قصة بأن مجدي يعقوب رحل في ضيق بسبب كونه قبطيًا، ذلك ببساطة غير صحيح. إنما رحلت لأسباب إيجابية. رحلت بحثًا عن فرص في العلم والطب السريري، وبرغبة في أن أخدم الناس في شتّى أرجاء العالم".

الخطوة الأولى

اتخذ مجدي، خطوته الأولى بالسفر إلى اسكتلندا، حيث اجتاز الجزء الأول من زمالته في كلية الجراحين الملكية في إدنبرة.

بحسب المذكرات، وصل مجدي يعقوب إلى محطة ويفرلي في إدنبرة على متن القطار الاسكتلندي الطائر، ليُجرّب للمرّة الأولى درجات البرودة القارسة ويُعاني منها، كان يدخن الغليون ويفعل ذلك على استحياء في هذه الأيام.

اقرأ أيضًا: 
أوراق العمر لـ مجدي يعقوب.. ميراث حبيب وعهد غجري وموت ملهم (1)

أوراق العمر لـ مجدي يعقوب.. الحرب وكرة القدم وعشق أسوان ومنحة الطفل (2)

search