يا صلاح.. لو في 3 منك
كلمات رشيقة وعصرية تناسب لغة 2024، ومزيكا معتادة مع الهضبة، وطبلة تدفع مشاعرك وقلبك للرقص قبل أن يتمايل جسدك، هكذا أعادني صوت عمرو دياب وكلمات مصطفى حدوتة في أغنية "يا قمر" مراهقًا منتشيًا.
"يا قمر لو في اتنين منك هيكونوا اتنين قمرات، يا قمر لو في تلاتة منك هيبقوا الأهرامات، لو كان في 4 منك أنا أحب 4 مرات، ويا نجمة لو 5 منك هديكي 5 نجمات، ويا ستي لو 6 منك أنا أموت أنا في الستات".
كلما ارتفع "حدوتة" بالرقم واصل إبهاري وهو يغازل محبوبته، وكلما قلت سيكتفي هنا، باغتني بالأجمل والأعمق كما يقول عند السابعة: "يا قمر لو 7 هيبقوا عجايب الدنيا السبع بس في شكل بنات"، حتي يصل بي عند دستة كاملة ولا يكتفى، فيواصل: "لو نص الكون كانوا إنتِ النص التاني أنا أكون بس إنتِ مفيش زيك تاني واحدة والباقي مش مضمون".
لا جديد في دفء صوت عمرو وإحساسه، ولا جديد في اختياره لحنا تميز بالهوية الديابية -هكذا أسميها- لكنه دفعني وحدوته أمام أصدقائي للتصفيق والتهليل بل والتطبيل لروعة ما قدماه، وجعلاني كما كل المصريين أعيد سماع الأغنية يوميًا عشرات المرات ولا يصيبني مللًا.
ثم أخذتني روعة الكلمات إلى تساؤل: "من تلك يا حدوتة التي تستحق هذه الكلمات؟"، وأي فتاة تجعل عمرو دياب يراها كما الأهرامات، وبين عجائب الدنيا السبع!.
تجولت بذاكرتي لأرى كل الجميلات، الشخصيات العامة منها وفي مجتمعي العادي، مررت بأنجلينا جولي، وجينيفر أنيستون، عدت لساحرة المراهقة منة شلبي وما طرأ عليها من تحولات زادتها رقة وأنوثة، وغيرهن، لكن جوابي المعتاد وجدته: "كلهن الأجمل في العالم لبعض الوقت، لكن لا جمال مطلق، ولا دائم، كل شيء يتبدل"، وعليه فلا توجد من تشبه الأهرامات حتى لو ارتسمت ونُحتت أردافها كما صديقة كريستيانو رونالدو جورجينا.
بعد بحث وتدبر وسرحان لم ينقطع أيامًا وأنا استمتع بجمال الهضبة، عجزت فاتنات العالم عن إقناعي بما وجدته في محمد صلاح أخيرًا، إنه هرم العصر، وأعجوبة زماننا، نعم هذا الذي استحق كلمات حدوتة.
صادف كل ذلك هوجة النقد والتخوين والطعن، التي حاصرت نجمنا المصري منذ انطلاق بطولة أمم أفريقيا، لكنها زادتني حرصًا على أن أراه هنا في مخيلة حدوتة وبقلب عمرو دياب، لا أحد بيننا كما الأهرامات غيره.
إن إيماني بتجربة محمد صلاح وما تبعها من تغييرات مجتمعية في العقل المصري، تتخطى كونه أسطورة كرة القدم، فهو برأيي اختيار الله، ليس لإلهام المصريين فحسب، بل لكثير من مجتمعات تشبه بنياننا الثقافي، والديني، والمجتمعي.
شاب خرج من اللا إمكانيات، وبعبثية رئيس الزمالك ممدوح عباس الذي فرط فيه قادته صدفة للانطلاق نحو المجد، حتى يصبح مثلًا أعلى للأوروبيين.
يراه أطفال إنجلترا وعموم أوروبا القدوة في زمن لعب فيه ميسي ورنالدو وظهر فيه وحش اسمه هالاند، يبكون فرحًا وهم لا يصدقون مقابلته، تقشعر أبدانهم وهو يحاوطهم حنانًا.
من بين عموم المصريين على مدار عشرات السنين كان نموذجًا وقدوة للأوروبيين؟
من بين عموم العرب على مدار عشرات السنين بدل الحال وقلب الموازين وجعلنا نحن النموذج وهم التلامذة؟
من بيننا جعل أبناء أساطير مثل كافاني يطلبون قميص صلاح؟
رجل جاور نيمار ومبابي وسواريز، لكن ابنه لم يؤمن بأحد مثل صلاح.. من فعل ذلك؟
من بيننا جعل نجل أسطورة بحجم ستيفن جيرارد لا يرى مجد أباه في ظل تفرد وتميز وأسطورية الفرعون المصري؟
أستطيع أن أقول رأيي في أدء محمد صلاح بأمم أفريقيا، تارة سأتفق مع المنتقدين، وأخرى سأقف مع المدافعين، في التفاصيل الخططية والفنية لا بد أن نختلف على أي لاعب، لكني أبدًا لم يهتز إيماني بأن مشوار محمد صلاح كان رسالة سماوية لمجتمع أصابه الإعياء في كل الاتجاهات، رسالة تحمل الأمل وسط المعاناة، رسالة تذكير لكل مهمش بأنه يستطيع أن يهزم العالم.
على كورنيش الدوحة وقفت أشاهد عظمة إستوديو محطة "فوكس نيوز" لتغطية مونديال 2022، وسألت نفسي: "كيف أصبح مقدمًا لهذا الإستوديو ذات يومًا؟"، لقد راودتني هذه الفكرة وأنا لم يسبق لي تقديم شيء سوى بقناة الحدث بما تحملها من عبثية تشبه أدائي حينها، سرحت لدقائق ثم استفقت حين أبلغني صديقي بأن هذا الإستوديو فاقت كلفته 25 مليون دولار، وقلت لنفسي "سامح الله صلاح الذي جعلنا نؤمن بمثل هذه الأفكار المجنونة".
نجل شقيقي يدبر بالكاد كُلفة طعام الأسبوع في سكنه الجامعي، ويسألني عن دبلومة تحليل أداء سعرها بآلاف الدولارات، فهو يحلم بأن يكون محللًا لأداء برشلونة، بعد أن انتهى حديثه معي كررتها: "سامح الله صلاح".
حولي الأطباء والمهندسين يرون أنفسهم رواد في ألمانيا وإسبانيا، طلبة الثانوية العامة يبحثون عن فرصة هجرة تمنحهم قيادة العالم مثل صلاح.
كل اللاعبين الصغار يخططون لمعايشات في سويسرا وبلجيكا وفرنسا وهولندا، لم يعد أحد سقفه الأهلي والزمالك، لقد بدل صلاح معاييرهم كما بدل معايير المجمتع.
بعد كل هذا التحول، ما زال قطاع كبير يراه متخاذلًا، تمامًا مثلما رأت أغلبية أرجنتينية ميسي هكذا، ولم ترض عنه إلا بعد تتويجه بالألقاب مع الأرجنتين.
لقد بكى ميسي حين سأله طفله تياجو: "لماذا يعشقونك بكل مكان بينما لا يحبونك في الأرجنتين"، أصاب سؤال تياجو والده باكتئاب حاد، قال "لقد كانت أسوأ فترات حياتي".
كانت حالة محيرة بالنسبة لي، رجل يسعد نصف الكرة الأرضية بسحره كل أسبوع، ولا يستطيع أن يمتلك السعادة؟.. إنها حكمة الله في خلقه، حكمته في من اختارهم ليكونوا نماذج ملهمة، يمرر من خلالها رسائله، وفي النهاية منحه أجمل ختام، تمامًا مثلما سيمنح صلاح ختامًا يليق به وبرسالته.
إننا نعاني في مصر على مدار سنوات طويلة من تغييب العقل وتغليب العاطفة، أحكام المجتمع لا تعرف المنطق، إما أن تكون معي أو ضدي، إما أن أرى صلاح الملك، أو المتخاذل الخائن!.
يقول الدكتور سامي عبدالعزيز، أستاذ الإعلام في حوار أجريته معه، "إن تطرف الآراء الجماهيرية في مصر ما هي إلا نتاج إعلام يبالغ في التناول لكل القضايا، فأنتج جمهور متطرف في النقد والدعم".
لكن إذا كانت هناك ضرورة لمراجعة الذات، فإنه لا حالة مثل حالة صلاح لنعيد تقييم أنفسنا، لماذا نحن هنا؟، وكيف نعود لصوابنا؟، بدلًا من أن نتسبب في اكتئاب وتعاسة مصدر سعادتنا الوحيد في هذا الزمن.
الأكثر قراءة
-
04:55 AMالفجْر
-
06:26 AMالشروق
-
11:41 AMالظُّهْر
-
02:36 PMالعَصر
-
04:56 PMالمَغرب
-
06:17 PMالعِشاء
مقالات ذات صلة
خناقة "أيمن وسيد".. أكثر من مجرد تكتيك
26 فبراير 2024 07:57 م
لأن الله أراد.. "تليجراف مصر"
17 ديسمبر 2023 08:08 م
أكثر الكلمات انتشاراً