الجمعة، 22 نوفمبر 2024

08:07 ص

جمر النار خلف السور

“وربنا بعشقكم.. نفسي أطلع من الحرب وأعيش بمصر”.. كلمات تفوّه بها طفل فلسطيني يرتدي نظارة أعلى جسم هزيل، يقف خلف السور “الشريط الحدودي العازل”، ليس في قلبه سوى حب لمصر وأمل في إنهاء الحرب، وليس في عقله سوى أمنية الحياة في مصر، وفي كُله تجسيد جليّ لما قاله محمود درويش “ونحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا”.

 لم يكن هذا الطفل الصوت الوحيد القادم من خلف السور، فهناك أصوات أخرى أكثر ألمًا ووجعًا، وأصوات لجمر نار يلوح في أفق الواقع، ويتدحرج في قلوب المصريين قادة وشعبًا.

 الخيام التي دقت أعمدتها في ضمير الإنسانية المشوّه، تعجّ بحاضر أتلفه صمت العالم قبل مدافع إسرائيل، ومستقبل ضبابي بفعل أدخنة التخاذل وتبرير الجرائم مدفوعة الأجر التي تفوق أدخنة قصف الاحتلال لأبدان الأبرياء.

 خلف السور خيام وأناس وملايين القصص المأساوية والسيناريوهات الخطرة، لكن ليس ما خلف السور كما أمامه، فبعيدًا عن قصف جيش الاحتلال للأراضي المحتلة، يبقى هناك محاولات لقصف من نوع آخر، يُستخدم فيه السور كأداة ضغط تهدّد أمن مصر القومي وتصفي القضية الفلسطينية، وكآلة حرب تبتزّ مصر بشتى الطرق.

 المشهد خلف السور رغم ألمه وقسوة تفاصيله إلا أنه خطر داهم على فلسطين ومصر بالتوازي، فالعملية العسكرية في رفح التي تحاول إسرائيل جاهدة لانتزاع تأييد دولي لها، لن تقصف البقعة الحدودية شديدة القرب من مصر فحسب، بل تطال الداخل المصري في مشهد أشد خطورة، فالخيام التي نُصبت خلف السور الحدودي الفاصل بين مصر والأراضي المحتلة، إن قُصفت أو حتى كانت نيران البارود بالقرب منها، ستدفع بمئات الآلاف على السور الفاصل، وتضع حياتهم على المحك أكثر مما هي على المحك.

 ما لن يؤخذ بالقوة، تُخطّط إسرائيل واللوبي الصهيوني الداعم لها لأخذه بالابتزاز ووضع جمرة نار متحركة على بعد أمتار من مصر، والهدف توريط القاهرة في أزمة إنسانية طاحنة تضعها - وهي ضحية- في موضع الجاني الذي يرفض إنقاذ العالقين والجياع والمصابين والضحايا والنازحين.

 جمرة النار تلك خلف السور هي الوضع المآساوي لضحايا حرب وضمير إنساني عفن، لن يبقى أمامهم في حال توسيع دائرة القصف والاستهداف سوى الحشد والحشر الكبير خلف السور، وماذا تفعل مصر آنذاك؟ هل تفتح حدودها على مصراعيها وتستقبلهم كمُهجرين؟ هل تغلق أبوابها في إطار حفاظها على أمنها القومي والتصدي لمخطط صهيوني واضح؟ ماذا لو تدافع مئات الآلاف وأحدثوا فوضى في بقعة أمنية استراتيجية من الطراز الأول؟ كيف تتصرّف قوات التأمين في هذا الحدث؟ ومن يدفع ضريبة الإجابات على كل تلك الأسئلة الصعبة بسيناريوهاتها المختلفة؟

لا أحد يستطيع الإجابة عن تلك الأسئلة، ليس لعدم وجود إجابات، لكن لأن الكثيرين لا يريدون الحقيقة، ليس للعقل مكان كبير وسط كل ما يلمس القلب أولًا، لكن القلب يخدع أحيانًا كثيرة.

جمرة النار خلف السور لا يُخطط لها النجاة أو الإنقاذ، بل تُتسخدم لتنفيذ مخطط صهيوني يستهدف مصر في المقام الأول وتصفية القضية الفلسطينية بالكامل، فما فشلت فيه إسرائيل منذ زيارة تيودور هرتزل (أبو الصهيونية) لمصر عام 1903، مرورًا باحتلال سيناء في 1967، تحاول الآن تحقيقه عبر بوابة التهجير الفلسطيني لسيناء، لكن تلك المرة بأداة مختلفة، فالمحاولة الأولى مطلع القرن العشرين كانت بالمال بفكرة شراء أراضٍ وتأسيس شركات، والمحاولة الثانية كانت بالسلاح قبل الهزيمة أمام الجيش المصري في 1973، أما المحاولة تلك المرة بالابتزاز وتوريط مصر في جريمة إنسانية برفض إنقاذ أناس في حشر كبير خلف سورها الحدودي، فينسى العالم مُجرم الحرب الحقيقي ويسأل مصر عن إدخال هؤلاء والقبول بسياسة الأمر الواقع من تهجير يُصفّي القضية ويصنع أزمة أمنية وسياسية واقتصادية كبرى، تكون ذريعة لاحتلال إسرائيلي جديد بشكل مختلف.

خلف السور ليس هناك أوجاع فحسب، بل هناك مآسٍ إنسانية يستخدمها عالم أصمّ بلا ضمير من أجل تحقيق مصالحه ويطعن بها قلب مصر وفلسطين، فالقاهرة وحدها من تدفع ثمن تلك القضية طوال تاريخ احتلال فلسطين، لا أحد يتكبد المعاناة غير مصر، ولا أحد يناضل لأجل حقوق المستضعفين من الشعب الشقيق إلا نحن.. فلماذا إذًا نقبل بالمزايدات على هذا الوطن وتلك الأمة؟.. وكيف يفهم الكثيرون خطورة الوضع وكارثية جمرة النار المتحركة تلك؟

search