الجمعة، 22 نوفمبر 2024

02:49 ص

نور الدين.. والحشاشين

مشهد 1.. عبستك إزاي وأنت مش باستني

"مسلسل فاشل واللغه في زمة الله قصه قويه وحقيقيه زي دا كان لاذم يكلموا غيها لغه عربيه فوصحه اي التخلف دا".. الجملة السابقة ليست تعويذة، أو طلاسم لجلب الحبيب ورد المطلقة، أو شفرة سرية لجاسوس في جهاز مخابرات، بل هي جملة من المفترض أنها مكتوبة باللغة العربية، وكاتبها يهاجم مسلسل لأنه لا يتحدث بفصحى تلك اللغة.

كان صديق أيامي الصعبة "الراحل جلال عامر" يرى أن من أشهر السلع التي يصدرها المصريين هي "الطرشة"، وأنا أرى أن "البجاحة" تضاف إلى قائمة صادراتنا القوية في الفترة الأخيرة.

كاتب تلك الجملة استل سيفه من غمده وترجل من جواده، وبكل "بجاحة" أعلن الحرب باسم اللغة العربية على اللهجة التي يقدم بها مسلسل "الحشاشين".. ليس مهما أن يكون جاهلا أصلا باللغة العربية وطريقة كتابتها السليمة حاله حال ملايين، وليس مهما معرفة قيمة العامية المصرية، أو عدم إلزامية تقديم عمل تاريخي بفصحى أو دونها، لكن المهم "بجاحته" في انتقاد العمل لشيء لا يملكه من الأساس.

قل في "الحشاشين" ما تشاء، ارصد أخطاء تاريخية أو عيوب درامية أو مشاكل إنتاجية، هذا حقك، أنا أحبه وأنت لا تحبه وهذه قيمة الدراما ولولا اختلاف الأذواق لـ"غارت السلع" وأنا أقصد "غارت".

لكن كن منطقيًا بعض الشيء في رصدك، فالمسلسل ليس حصة تاريخ، ولم يصنع من أجل تعليم اللغة العربية، هو عمل درامي تعامل معه كيفما تشاء، فأنا مثلا لا أحب لهجة "وحياة الله لقوصك" أو "ليك تؤبرني ها الطلة"، لا تروق لي ولا أحب تلك الأعمال المدبلجة، لكن لها زبونها الذي يحبها، وأنا لست ضابطًا في شرطة المسلسلات.. أحب الحشاشين والممثلين والدراما فيه، أنت لا تحبها، لا مشكلة في ذلك، لكن لا تتحدث عن لغة عربية أنت لا تعرف كيف تكتبها من الأساس، ولا تكن "بجح" في "التطبيل" لأعمال تركية أو أجنبية وحينما ننتج مثل إنتاجها فجأة تتذكر أنه لابد من استخراج "القطط الفطسانة" في العمل، وتذكر دائمًا "عبستك إزاي وأنت مش باستني".


مشهد 2.. ميكروباص الطالبية "متلازمة الكارتة"

في حياتي مغامرات كثيرة، لكن مغامرة "ميكروباص الطالبية" لها طابع خاص جدًا، فهي صحيفة أحوالي النفسية، ودليل الناس في فقه الميكروباص.

سائق "فلوكس".. وجه عابس وقلب يابس وعقل بائس، يعاني من متلازمة "الكارتة"، تلك التي يدفعها رغمًا عن أنفه للعبور العظيم إلى الطالبية، وتلك التي يدفعنا إياها رغمًا عن أنفنا للعبور العظيم إلى جنته.

العابس اليابس اليائس يفرض علينا سماع رجل خلف تسجيل صوتي "يشخط وينطر" حول عذابات القبر، وفنون التعذيب المختلفة في الآخرة، والسادية التي سنعيشها حال خروجنا من تنسيق الجنة التي بالضرورة يعمل في مكتب إلحاق العاملين بها.

هذا وذاك وأولئك أتباع نفس النظرية في فنون الترهيب والتعذيب، لا يعرفون سوى خطابًا واحدًا يحتكر الجنة ويملك مفاتيحها، لا أحد يستحق الحياة دونهم، وليس أفضل منهم على الأرض، وهم الفئة الناجية، وأصحاب اليقين، ومُلاك الحقيقة، فكيف يظهر شيخ يخبرهم أن الجنة مفتوحة لكل خلق الله دون تمييز، وأن رحمة الله تسبق كل شيء، وأن الله جميل وودود ولطيف ورؤوف، كيف لهذا العجوز أن يرى الله والحياة والموت هكذا، "دي حاجات مخدنهاش في كيلاس التطرف" الذي شكل هوية ملايين بجريمة مركبة ارتكبتها حكومات سابقة.

الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق، وأحد الشيوخ الفقهاء في مصر، يقدم برنامج "نور الدين"، يطرح فيه خطابًا عاديًا وسهلًا وجميلًا، لكننا لسنوات لم نعتاد على تلك الخطابات، فنحن كبرنا على فئة تحتكر الجنة وأخرى لن تراها "لو وقفت على ودانها"، كبرنا على فئة ناجية وفئة هالكة دون التدبر فيما نقول، كبرنا على عادات وتقاليد قبلية تناهض عدل الله ورحمته من الأساس، لكن وجدنا لها منفذا دينيا فباتت أحكام باتة نهائية.

من الطبيعي أن تختلف مع كل طرح يقدم إليك، لكن هذا مشروط بتقبلك الاختلاف مع طرحك أنت من الأساس، فمن أخبرك أنك تملك من اليقين أي شيء؟ كيف لي أن استعرض عليك أفكاري باعتبارها مقدسة؟ كيف لنا سويًا أن ندعى امتلاك الحقيقة وهي نسبية؟ وكيف لبعض "الأميين" في البحث والتدقيق الخوض في ذمة وإيمان وعقيدة شيخ سبقهم بسنوات في رحلة العلم، حتى وإن كان لا يروق لهم؟

سائق الفلوكس الذي تشاجرت معه قبل سنوات بسبب صوت عال لرجل يزعم أنه "عالم دين" يخيفنا من الله والحياة، نموذجا لكثيرين يرفضون أي سؤالا في الدين، أو بالأحرى في التفسيرات والفقه الذي تغير مئات المرات باختلاف الزمان والمكان، وبتقديرات رحمة الله وحكمته وسمو علاقة الإنسان بربه.. لا تحب علي جمعة ولا تسمعه فهذا شأن خاص، لكن الرجل يطرح رؤى تستحق التقدير أو على الأقل البحث والتدبر، يطرح خطابًا أكثر رحمة من تلك الخطابات التي كلها تنفير وترهيب وتسيء لرحمة الله، يضرب حجرًا في مياه راكدة كان لابد أن تتحرك سواء أعجبنا ذلك أو لم يعجبنا ومارسنا هوايتنا المفضلة في دفن رؤوسنا في الرمال.

من المؤسف أن أعترف بهذا الاعتراف، ولكنه شر لا بد منه، إن أشهر 3 جنازات في تاريخ مصر حدثت مؤخرًا، بعدما شيعنا جثامين "المنطق" و"الوسطية" و"الخشا" الذي اعتبرناه سبب فقر الرجال.

search