الجمعة، 22 نوفمبر 2024

02:01 ص

تلاعبني يا واد.. مهزوم لجريح؟!

استلّ القلق سيفه من غمده وطعنني في قلبي، سقطت غارقًا في دماء أفكاري على السرير ممسكًا بهاتفي المحمول، لم أكن أعلم وقتها هل هي سكرات اليأس أم أني سقيم بالإفراط في الخوف من المجهول. 

في أثناء ذلك مرت عليّ أغنية “أنا وابني” من فيلم “الإسكندراني”، التي كتب كلماتها الشاعر الكبير جمال بخيت، ومسّ قلبي شيء ما بالتأمل في كلماتها التي تقول: “كل اللي عمره بكى ممكن يزيح همه.. إلا اللي خاض معركة وقتيله من دمه.. يخلق من ضهر الحب شيطان.. يخلق من ضهر العقل جنان.. وأنا وابني رمينا النار في الريح.. ودفنا في أرض الخوف مصابيح.. تلاعبني يا واد مهزوم لجريح؟!”.

المشهد الأول: شتاء 2003

“الصدمة والترويع”.. ذلك كان عنوانا أُطلق على عملية غزو العراق في مارس 2003. وبعد أكثر من 20 عامًا من التدمير الأمريكي للعراق تحت ستار حماية الديموقراطية وإسقاط صدام حسين الديكتاتور، بقي مشهدٌ يتغافل عنه الجميع سهوًا أو عمدًا.

قبل الغزو الأمريكي للعراق، لجأ من أطلقوا على أنفسهم لقب معارضين لأمريكا من أجل تخليصهم من صدام، فنجد المعارض العراقي الشريف علي بن حسين، يجتمع بمسؤولين أمريكيين، الذين أكدوا له إسقاط نظام صدام، ومن ثم قيام ائتلاف واسع يضم الجميع لبناء “عراق ديموقراطي”.

أما نائب رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، عبد العزيز الحكيم، أشار وقتها إلى تطورات خطيرة في العراق بسبب سياسات نظام صدام، الأمر الذي دفعه إلى الجلوس مع الأمريكان لبحث إسقاط النظام. الغريب أنه وهو يتفق مع غازي على ضرب بلاده، إلا أنه - مشكورًا- طالبه بعدم تدمير البنية التحتية لدولته.

المعارضون الذين دخلوا بلادهم على ظهر دبابات غزاة ومستعمرين باعوا فكرتهم بوازع أخلاقي وإنساني أو هكذا يبدو، لا هم حكموا ولا العراق بقى، وظل لأكثر من 20 عامًا -وما زال- يحاول العودة إلى الحياة ولا نعلم إن كان سيعود أم لا.

المشهد الثاني: شتاء 2011

حملت رياح الربيع العربي نسائمها إلى دمشق واندلعت الثورة السورية مثلما طالت بلدانا عربية عدة تباعًا، وحمل المتظاهرون مطالب مشروعة لرئيس الدولة بشار الأسد، لكن الأمور لم تنتهِ هُنا، بل تطورت وصارت الثورة حربًا أهلية شعواء، قضت على الأخضر واليابس في سوريا، وشردت شعبه ودمرت مقدراته.

لم يمتلك أحد أذنين ليسمع، وأصبحت الخيانة وجهة نظر، فتكرر سيناريو العراق، ذهب معارضون إلى غازي ومستعمر، يستعينون به لضرب بلدهم، ويتسلحون بأسلحته لمحاربة شعبهم.

بحسب “فورين بوليسي”، فإن المعارضة السورية المسلحة لجأت جماعات منها إلى إسرائيل، التي مولتهم بالمال والأسلحة والعتاد، فضلا عن آخرين لجأوا إلى إيران ليتكرّر نفس الدعم، وضاعت سوريا.

المشهد الثالث: فبراير الأسود

انتفض الليبيون ضد نظام معمر القذافي في فبراير 2011، وفي سبيل رحيله بذلوا كل شيء، إلا شبئا واحدا، أن يجلسوا معا ويتفقوا ويسمعوا إلى بعضهم البعض، فنشبت حرب أهلية، الكل فيها يقول إنه صاحب الحق، والجميع فيها يمتلك صكوك الوطن ومفاتيح بواباته.

باتت ليبيا ساحة حرب مفتوحة وموطأ قدم لجماعات إرهابية تمولها قوى استعمارية وأخرى إقليمية ذات طموح استعماري، تشتت الإخوة وضرب الفراق الجسد الواحد، وراحت مجموعات إلى أحضان الأجانب تسأله سلاحًا ومالًا وعتادًا، ولحقت ليبيا بالعراق وسوريا.

المشهد الرابع: يناير 2011

خرج الآلاف في صنعاء منددين بثلاثة عقود لحكم علي عبد الله صالح لليمن، البلد الذي يقبع في شبه الجزيرة العربية، لكنه ليس في ثراء باقي الدول ولا إمكاناته، وأوضاع شعبه لم تكن طيبة، لكن القصة لم تنته هُنا.

الثورة السلمية تحولت إلى مسلحة، وانفتحت الأراضي اليمنية على مصراعيها بسقوط قواتها المسلحة، وباتت ملعبًا لقوى أجنبية، قبل أن يسيطر الحوثيون على الأمور بقوة السلاح، ويتحول اليمن السعيد إلى مكلوم، وتضربه بقسوة كل أشكال المظالم في الحياة.

المشهد الخامس: أبريل 2023

سقط نظام البشير في السودان بعد احتجاجات شعبية واسعة. انتصر الثائرون على نظام ظل لعقود يحكم قبضته على البلاد، وعمت الأفراح والليالي الملاح البلاد. كان ذلك في أبريل 2019، لكن بعد 4 سنوات تبدد ياسمين الثورة وعطب ريحانها.

اندلعت اشتباكات عنيفة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ويشهد السودان أقسى حال يمكن أن تصل إليه أمة، دمار كامل ومجاعة ومئات الآلاف من الضحايا وملايين من النازحين.

المشهد السادس: جرحي النازف

كلما ضاق صدري بحزن لا أقدر عليه أختبئ بين صفحات كتاب، أنطوي بين أوراقه بحثًا عن شيء يلهيني ومعرفة تُشعرني بونس صديق لا أجده كثيرا في أحلك أيامي. في خضم ذلك الهروب الكبير عكفت على قراءة خواطر برنارد لويس، مهندس تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات صغيرة، وضابط الاستخبارات البريطاني اليهودي المُخضرم.

في تلك الخواطر أوعز “لويس” إلى ضرورة استخدام خطاب خاص لدغدغة مشاعر مواطني الشرق الأوسط، فمثلا يقولون لهم: “نحن نحترم ثقافتكم بشدة، نشارككم في مقت حكامكم الطغاة القتلة الذين يلحقون العار والخزي ببلادكم وشعبكم ودينكم”. وزاد: “قد تكون الأفكار الغربية ساعدت في إثارة بعض الأزمات الانتقالية في الشرق الأوسط مثل أحداث الربيع العربي في 2011، ولكن يمكن للشعوب ذاتها فقط حل هذه الأزمات. يجب أن نحذر من اقتراح الحلول التي - ولو كانت جيدة- فإنها تفقد مصداقيتها بمجرد أن نقترحها، فسياستنا وطرقنا الدبلوماسية غير مرحب بها، أما أسحلتنا وأموالنا فمرحب بها”.

ما طرحه مهندس تدمير الشرق الأوسط وتقسيمه ارتبط في ذهني - وبالدلائل والشواهد والواقع- بأن الغزاة والمستعمرين يقفون على الأبواب مستغلين أي فرصة للانقضاض على أجساد الأوطان الجريحة، مستخدمين في ذلك أناسا من ذات الأمة يفتحون لهم الأبواب على مصراعيها بقصد أو دون قصد.

أنا هنا لا أشوّه أي حراك وطني لأمم أكل عليها الدهر وشرب ولها مظالم جلية وآمال كبيرة. بل أنفض عني سيول أفكاري وقراءاتي، متأملا ما حدث وما يخطط له أن يحدث، ولا أوزّع صكوك براءة أو اتهام لأحد، إلا من خانوا بوضوح كعتمة تُخضع النور أسفل أقدامها.

ونحن نخوض غمار الحديث عن أزمة اللاجئين في مصر، علينا أن نأخذ في عين الاعتبار أنهم مُهجرون قسرًا من بلاد أكلتها الفتنة وقصمت ظهرها الحرب الأهلية. هم ضحايا أناس في أوطانهم وجدوا في الدم راويًا لظمأهم، وفي الاقتتال مسعى لتحقيق أهدافهم، ومنهم من استعان بقوى أجنبية للوصول إلى مبتغاه.

أخيرًا، لا سبيل أمامنا جميعًا سوى الحوار سويًا، لا نتقارع على جسد الوطن، ولا نساهم في دمار مؤسساته وضياع مقدراته، بل نمتلك عينين للرؤية والتحليل، وأذنين للسمع فيما بيننا، بتواضع وتقدير لحجم التحديات التي تحيط بنا، والمؤامرات التي تُحاك ضدنا، وإيثار مثل الذي شكل تاريخ أمتنا. نحن مختلفون، وفي ذلك رحمة، وعلينا جميعا أن نتحاور لا من أجل إثبات صحة وجهة نظر أحدنا على الآخر، بل من أجل عبور الأيام الصعبة سويًا. الآن نمتلك طاولة نجلس عليها معًا للحوار، فلا تسمحوا أن نفقد الطاولة والحوار والوطن.. فمصر أهم من كل وجهات نظرنا وأهم منا جميعًا.

search