عن خيانة الفرح وطموح الجماهير في ليلة الـ14 من ديسمبر
بعض الأحداث لا تفارق خيالك حتى وإن حاولت، وبعض الجمل تحفر نفسها في الذاكرة فلا ينفع معها محو أو تجاهل، عرفت ذلك جيدًا حين قرأت لأول مرة عن سقوط البرازيل في نهائي كأس العالم 1950، فكرت كثيرًا في ما قالته جريدة التايمز آنذاك وهي تصف صمت 200 ألف برازيلي ملئوا مدرجات المراكانا وانتظروا العودة بالكأس، فما حصدوا سوى الخيبة والدموع، وقتها كان طموح الجماهير أكبر من طموح منتخبهم.
مع الفارق في الحدث والأهمية، لكني تذكرت هذه الواقعة وأنا أتابع مباراة الأهلي وباتشوكا من مدرجات ستاد 974 بقطر، ربما لأن هناك بعض التشابه، مثل أن المباراة كانت في صالح الأهلي كما كانت في صالح البرازيل، فالجماهير استعدت للفوز، اللاعبون استعدوا للرقصات الاستعراضية، المعلقين حضّروا جمل الختام، ومجلس الإدارة تجهز لتلقي التهاني، وكما كانت اللحظات الأخيرة هي الحاسمة مع السيلساو الذي خسر في سيناريو ملحمي، كانت اللحظات الأخيرة هي التي حسمت المباراة للفريق المكسيكي الذي أهدر ركلتي جزاء ثم حمل الكأس في النهاية.
كنت أتمنى أن أسمع صمت الجماهير التي تخطت الثلاثين ألفًا، وقتها كان يمكن للأمر أن يمر مرور الكرام، لكن الجماهير الأهلاوية لم تصمت، بل صرخت.. بكت.. سبّت المقصرين وغمغت الأعين بالدموع، كان الخروج من الاستاد يشبه الخروج من مأتم كبير، مأتم نُصب لفقيد اسمه الحُلم، أردد جملة محمود درويش "خيانة الفرح قاسية" وكان أقسى ما رأيته ليس الهزيمة بل الخذلان، من جاءوا ليحتفلوا ورحلوا وهم يحملون الأعلام الحمراء والكوفيات الحمراء والكابات الحمراء وهم ينظرون إلى اللون وما كانوا يحلمون به وما صار الآن.
لا تعترف جماهير الأهلي وأنا منهم بحجة أنه يكفينا شرفًا أننا نخرج من نصف نهائي في كأس عالمي، لم نقتنع بأن ما وصلنا إليه كافٍ، لم نؤمن بأن الهزيمة هي الأصل في تلك المواجهات، من واجه الأهلي ليس فريقًا من المريخ، لا يحمل عدد لاعبين أكبر، لا يحمل لاعبيه ثلاثة أرجل بدلًا من رجلين، ومساحة شباكه هي مساحة شباكنا، كل شيء متساوِ تمامًا فعن أي حجج يتحدثون؟
كما أن المباراة لم تكن قاسية علينا، وقتها لعذرت الجميع، لقلت صحيح كل شيء متساوِ لكن المهارات الفنية صنعت الفرق، لم يكن هناك أي مهارات، كان لاعبينا في الملعب يملئون جوانبه، وجماهيرنا في المدرجات يهتفون، والجميع يدعم ويساند ولم يتبق لنا سوى أن يسدد لاعب من اثنين ركلة جزاء واحدة، هكذا اقتربنا من الحلم لهذا الحد، لتلك الدرجة، تسجيل ضربة جزاء.. ضربة جزاء نسبة التهديف فيها تتخطى الـ90%، وكان الحظ كريمًا معنا فمنحنا فرصتين لتحقيق ذلك ولم يتحقق!
من السبب، كان هو السؤال الذي دار وسط آتون الحزن الذي طحن الجميع، حاولت استجماع أفكاري، التفكير فيما رأيته منذ قليل، بدا النوم بعيدًا والطريق إلى الفندق أطول مما يحتمل عقلي، وبعيدًا عن ما يمكن قوله فنيًا لكن الأهلي لا يكسب فنيًا فقط، الأهلي يربح بالروح.. الإصرار.. شخصية البطل.. الطموح، رددت الكلمة الأخيرة كثيرًا وأعدت ذكريات كثيرة خلال الفترة الماضية.
نعم هذا سر نجاح الأهلي، الطموح، في البدء طمح أن لا يكون مجرد فريق مصري بل أن يصبح زعيم الدوري وحاصد الألقاب، وحدث ما كان يريده على مدار أكثر من قرن، ثم حلم بأن لا يكون هناك منافس له، والأرقام والبطولات تؤكد أنه يملك فرقا كبيرا بينه وبين أقرب منافسيه، وما إن انتهى من الطموح الأول حتى توسع نحو القارة الأفريقية التي أراد أن يكون سيدها بلا منازع، وتطلبت المرحلة الجديدة الكثير من التفكير والإدارة والصفقات والأموال، ولم يبخل النادي بكل ذلك على مدار عقود حتى وصل رصيده إلى 12 بطولة أفريقية، وبات كل فريق داخل القارة السمراء لا يتمنى شيء سوى إزاحة الأهلي من المنافسة ثم يربح من يربح، لكنه لم يمنح تلك الفرصة لأحد حتى الآن.
ثم جاء الطموح الثالث وهو الوصول نحو العالمية بمشاركات كأس العالم للأندية بنسختها القديمة، وكالعادة تطلب الأمر تطوير أكثر، وصفقات أكبر، وإدارة أفضل، وحقق الأهلي غايته بالوصول إلى وتحقيق المركز الثالث في أكثر من نسخة حتى توج كل هذا بمشاركته في كأس العالم بنسخته الجديدة التي ستقام في الولايات المتحدة الأمريكية.
وسط كل هذا كان طموح جمهور الأهلي يكبر من المحلية إلى القارية والعالمية، ونتيجة أن المنظومة تسير بشكل صحيح كان المركز الثالث الذي تمرّس الأهلي عليه بدأ يفقد رونقه، وبات الطموح كما يقتضي المنطق أن يصل للنهائي عسى يومًا أن يحسم اللقب، لكن الفجوة التي حدثت أن طموح جمهور الأهلي صار أكبر من جمهور اللاعبين والإدارة نفسها، ولذلك بات الجمهور يطالب بالصفقات التي تلائم الحدث فيما تتحدث إدارة النادي عن سقف الصفقات وهو سقف متواضع مقارنة بالمنافسات المشارك فيه، صار الحديث عن التقليب في الملفات القديمة وعودة اللاعبين الذين رحلوا، أو إحياء من ظلوا أشهر على الدكة، هكذا حدثت الفجوة، جماهير ترى أنها الأجدر ولاعبون وإدارة يرون أن ذلك نهاية المطاف!
لن يتراجع طموح جماهير الأهلي، دموعهم غالية، أحلامهم كبيرة، وخيبة أملهم تولد بركان لا يستطيع أحد أن يقف أمامه، لذلك فالحل، والحل الوحيد الذي وصلت إليه بمجرد وصولي إلى الفندق، أن على النادي بلاعبيه وإدارته إدراك أن الحل في تقدير ما وصلنا إليه، في استشعار أهمية تلك اللحظة، في معرفة أن الجمهور الذي وصل أمريكا لن يعود ولن يتحمل طويلًا خيانة الفرح.
الأكثر قراءة
-
05:17 AMالفجْر
-
06:49 AMالشروق
-
11:56 AMالظُّهْر
-
02:44 PMالعَصر
-
05:03 PMالمَغرب
-
06:26 PMالعِشاء
مقالات ذات صلة
القاضية ممكن.. حين توقف الزمن على إيقاع الحلم!
27 نوفمبر 2024 10:20 م
الدوري المصري.. "ظبطنا الجاكيتة البنطلون ضرب"
10 نوفمبر 2024 11:46 م
على هامش البالون دور.. حتى لا تفقد الجوائز قيمتها
01 نوفمبر 2024 02:07 م
بطولة تصحيح المسار
27 أكتوبر 2024 02:10 م
أكثر الكلمات انتشاراً