الإثنين، 16 سبتمبر 2024

10:26 م

العشاء الأخير في مرحاض أوروبا

﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَخۡرِجُوهُم مِّن قَرۡيَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسٞ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (الأعراف: 82)

كلما طالعت عيناك حروف وكلمات تلك الآية الكريمة، وتعمقت في معانيها انتابك الاستغراب الشديد الذي قد يصل حد الاستنكار، فالعاقل فقط من يستنكر الدناسة ويتجنبها، أما من يستسيغها أو يتقبلها فهو مريض لا محالة، فما بالك ممن يستنكر العقل على أصحابه. فقد كان الوصف القرآني البديع لقوم لوط في تلك الآية الكريمة من سورة الأعراف من جوامع الكلم، فلما كان فعل قوم لوط يتنافى مع الفطرة ويمعن في الشذوذ، وصفهم الله عز وجل بشذوذ العقل والفكر والفطرة، فبأي منطق تعد الطهارة جريمة، وأي عقل يعترف بأنها طهارة ثم يستنكرها ويطردها من حيز وجوده، إلا إذا كان ذلك الشخص مصابا باعتلال عقلي.

ولم يكن القرآن الكريم هو الأسبق أو الأوحد في تكريس هذا المنهج في وصف الشذوذ؛ بل سبقه في ذلك الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد، فقد جرّم الشذوذ العهد القديم صراحة في سفر اللاويين وحكم على من يقترف هذا الإثم بالموت رجمًا (وَإِذَا اضْطَجَعَ رَجُلٌ مَعَ ذَكَرٍ اضْطِجَاعَ امْرَأَةٍ، فَقَدْ فَعَلاَ كِلاَهُمَا رِجْسًا. إِنَّهُمَا يُقْتَلاَنِ.) سفر اللاويين 20:13

وفي العهد الجديد كما ورد في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية (والَّذِينَ إِذْ عَرَفُوا حُكْمَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِثْلَ هذِهِ يَسْتَوْجِبُونَ الْمَوْتَ، لاَ يَفْعَلُونَهَا فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا يُسَرُّونَ بِالَّذِينَ يَعْمَلُونَ) رومية 1:31

ولم يكن ذلك الإجماع على إنكار ذلك الفعل القبيح من جانب الديانات الإبراهيمية فقط، بل شاركها في ذلك الكثير من ديانات العالم القديم أيضًا، ويشهد التاريخ القديم والحديث لأوروبا ذاتها على تجريم مثل هذه الأفعال، فقد أدان الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول المثلية الجنسية في مرسوم رسمي أصدره في العام 390 ميلادية وحكم فيه على من يرتكب هذا الفعل بالإعدام حرقًا، وأعقب ذلك قانون جستنيان للإمبراطور البيزنطي جستينيان الأول في عام 529، القانون الذي نصّ على الإخصاء العام والإعدام لجميع من يدان بالمثلية الجنسية، ولم تكن المثلية الجنسية إلا مرضا في وجهة نظر  الطبيب النفسي "ريتشارد فون كرافت إيبنج" حينما تحدث عنها في كتابه "الاعتلال النفسي الجنسي" عام 1886م.

وربما تكون تلك السطور غيض من فيض لأحداث وشواهد حملها التاريخ بين جنباته تستنكر بل تجرّم في عمومها مثل هذا العمل القبيح.

العشاء الأخير

وفي ذات الفرضية التاريخية، يأتي ذكر العشاء الأخير في التاريخ برمزيته التي تتعدى تلك اللوحة العبقرية لـ ليوناردو دافينشي بما تتضمنه من رموز وأسرار عجزت عشرات المقالات والروايات عن تفسيرها، بل تتخطى رمزية العشاء الأخير تلك اللوحة لما لهذا الحدث من تأثير مؤسس في العقيدة المسيحية.

فالعشاء الأخير طبقًا للعهد الجديد، هو آخر ما احتفل به يسوع مع تلاميذه، قبل أن يتم اعتقاله ومحاكمته وصلبه طبقًا للعقيدة المسيحية، وقدّم فيه يسوع خلاصة تعاليمه لتلاميذه من الحواريين، ليس هذا فحسب بل ترجع أهميته، إذ تأسس به سر القربان أو الأفخرستيا؛ واحد من أهم العقائد والتعاليم المسيحية.

ولم تقتصر قدسية وعظمة تلك المناسبة على المسيحية فحسب، بل ذهب كثير من المفسرين على الربط بينها وبين المائدة التي اختصها الله عز وجل بسورة كاملة مما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حين وصفها عز وجل:
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّـهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿١١٢﴾ قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴿١١٣﴾ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّـهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴿١١٤﴾ قَالَ اللَّـهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ﴿١١٥﴾

من هنا نستطيع أن نستشهد على مدى عظمة وقدسية ذلك الحدث التاريخي العظيم (العشاء الأخير)

مرحاض أوروبا

(لو كانت أوروبا منزلا لكانت روسيا هي المكتبة، وبريطانيا هي البهو، وإيطاليا هي المطبخ، وفرنسا هي المرحاض) مثل إنجليزي

نقفز الآن من كتاب التاريخ بأخباره وحكاياته المقدسة منها والمشين لنهبط هبوطًا اضطراريًا في مرحاض أوروبا كما وصفه المثل الإنجليزي السابق، حيث تستضيف فرنسا الأولمبياد في نسختها الحالية للعام 2024، وعن ما أثاره حفل الافتتاح من موجات تسونامي عاتية من ردود الفعل التي انتابت المسيحين قبل المسلمين، وانتابت صاحب كل فطرة سليمة بعد هذا الإمعان من منظمي الحفل على التجديف وتدنيس كل ما هو مقدس بحسب الديانات كما ذكرنا سابقًا برجس ذلك الشذوذ الذي أجمعت الديانات والحضارات علي تجريمه.

هنا يتبادر السؤال بل آلاف الأسئلة:
لما يصر هؤلاء على محاربة المقدسات والعقائد والأديان بهذا الإصرار وهذا الكم من البجاحة؟
ما الغاية من تعمد تدنيس المقدسات؟
هل الحرية الفكرية أو الجنسية المزعومة تقتضي تدنيس الدين والعقيدة؟
أم أنها تحيا حياتها القصيرة تلك على تسلق أكتاف المقدسات؟

تكثر الأسئلة وتضيع الإجابات وسط الروائح والمظاهر السافرة التي تطل علينا من مرحاض أوروبا، وفي النهاية لم يكن ما تم تقديمه في حفل الافتتاح هذا إلا حدث خارج حدود الأدب.

search