الخميس، 21 نوفمبر 2024

04:53 م

سامح مبروك
A A

نبوخذ -نصر- الله | خارج حدود الأدب

بعد وفاة النبي "سليمان" "عليه السلام"، وفي حوالي عام 930 ق. م.، انهارت مملكته العظيمة نتيجة الصراع على الحكم ومن ثم انقسمت مملكة اليهود إلى قسمين، مملكة "إسرائيل" في الشمال وعاصمتها "السامرة"، وكان يقطنها ما يعرف بـ "القبائل العشر"، ومملكة "يهوذا" في الجنوب وعاصمتها "القدس"، وكانت تحتفظ بـ "السلالة الداوودية" إي من يمتد نسبهم لنبي الله "داوود".

وسريعًا في العام 722 ق. م. تداعت مملكة الشمال "إسرائيل" حينما غزتها الإمبراطورية "الآشورية"، ودمرت جُل مدنها، ولم يكتفوا بذلك بل عمدوا إلى التهجير القسري لمعظم سكان مملكة "إسرائيل" مما سماه المؤرخون بـ "السبي الآشوري"، وأدى هذا إلى شتات قبائل بني إسرائيل العشر، حيث عرفت فيما بعد بـ "القبائل المفقودة". 

بعد ذلك بنحو مائة عام، كانت مملكة الجنوب "يهوذا" ما تزال صامدة، ولكن في شرق الجزيرة العربية، وتحديدًا في جنوب العراق بالقرب من المدينة التي تسمى الآن "الحلة"، كانت هناك إمبراطورية يشتد عضضها، ويتنامى نفوذها في مدينة بابل، تحت قيادة الملك الشهير "نبوخذ نصر الثاني"، وتصاعدت قوته وبدأ ببسط نفوذه وسيطرته على المدن والممالك المجاورة لبابل، حتى وصلت طلائع جيوشه مدينة القدس، وعرض على ملكهم "يهوياكين" الخضوع للإمبراطورية البابلية، فلما قوبل طلبه بالرفض، شن عليهم حملته الأولى في عام 597 ق. م.، حيث غزا القدس وسبى الملك "يهوياكين" وعائلته ولفيف من النخبة الحاكمة والكهنة، أخذهم إلى بابل ليصبحوا عبيدًا.

وفي العام 586 ق. م.، عاودت من جديد المطامع ملك "يهوذا" في ذلك الوقت "صدقيا"، وقرر التمرد والخروج من تحت طوع الإمبراطورية البابلية، فشن "نبوخذ نصر" حملته الثانية على مملكة "يهوذا"، وفيها دمر مدينة القدس تمامًا، وقتل أولاد "صدقيا" أمامه، ثم سباه ومعظم سكان المملكة إلى بابل، فيما عرف بـ "السبي البابلي".

واستمر "السبي البابلي" نحو 50 عامًا عاش خلالها اليهود كل أشكال الذل والهوان والاستعباد والاضطهاد، مات أثنائها "نبوخذ نصر" وأتى من بعده ملوك ضعاف العزيمة، قليلي الخبرة، مما سمح لـ "كورش الكبير" مؤسس الإمبراطورية "الفارسية"، أن يقود جيشه نحو بابل في عام 539 ق. م.، وفي معركة "أوبيس" على ضفاف نهر دجلة حقق نصرًا ساحقًا على البابليين، اقتحم من بعدها بابل، ثم سمح "كورش الكبير" بعودة اليهود من جديد إلى مملكة "يهوذا"، وحررهم من السبي المهين.

في هذه السطور البسيطة ربما نكون قد تطرقنا لفصل من فصول عديدة في تاريخ اليهود، ذلك التاريخ المليء بالنكبات والهزائم، فصل كان بطله "نبوخذ نصر" الذي قد يختلف المؤرخون في وصفه، فمنهم يجده من منظوره إمبراطورًا عظيمًا، ومنهم من منظور مقابل قد يراه قاتل جبار.

وهنا تأتي المفارقة الموجعة، فاليوم نحكي عن نهاية "نصر" آخر، كان أيضًا شاهدًا على أحد فصول حروب ونكبات اليهود، فبعد إعلان حزب الله اللبناني استشهاد أمينه العام "حسن نصر الله"، تطوى صفحة من صفحات الصراع مع ذلك الكيان الثيوقراطي.

"نصر" الماضي أذل اليهود وسباهم، ونصر الحاضر استطاع أن يكون شوكة في ظهورهم لعقود، أدار صراعه معهم في البداية ببسالة أفضت إلى إجلاء إسرائيل من جنوب لبنان المحتل تمامًا في عام 2000، وتنامت من بعدها قوة ونفوذ "نصر الله" السياسي والعسكري في لبنان.

ذلك النفوذ العسكري الذي أخرجه من مكانه ومكانته في الخطوط الأمامية للمقاومة، لينخرط مع الجيش السوري في قمع الحراك الثوري السوري في العقد الماضي، تلك الفعلة التي يراها الكثير من السوريين "خطية كبرى"، خطية كان سببها الولاء، نقلت "حسن نصر الله" في نظر الكثير من السوريين من مكان المقاوم إلى مكان القاتل، تمامًا كنصر الماضي، فهو أيضًا يراه البعض كما ذكرنا كقاتل.

ونقف اليوم على الجانب الآخر من النهر، لا نستطيع تمييز مشاعرنا، فتارة نرى رحيل "نصر الله" خسارة فادحة لواحد من قادة المقاومة، وتنامي مفرط لقوة إسرائيل، وتارة نرى فرحة بعض أهلنا بسوريا برحيله جزءًا لما كان سببًا فيه، نقف ما بين ألم ووجع وحزن واكتئاب وبعض الفرح، نقف ما بين "نصر" الماضي والحاضر نتساءل (مَتَى نَصْرُ اللهِ؟) ولكن الإجابة في ذات الآية (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.

ولكن تظل المفارقة الكبرى ما بين نهاية قصة السبي البابلي لـ "نبوخذ نصر" الملك العظيم القاتل، ونهاية حكاية "حسن نصر الله" الشهيد القاتل، عامل مشترك واحد هو "الفرس"، فهل ستأخذنا من جديد تطلعات ومصالح "الفرس" خارج حدود الأدب.

search