الثلاثاء، 03 ديسمبر 2024

07:19 م

سامح مبروك
A A

خارج حدود الأدب| نعيم ماسك وجحيم مارك

‏في ليلة 26 أبريل عام 1986م، كان المهندسون على وشك إجراء تجربة تبدو اعتيادية لاختبار نظام الأمان للمفاعل رقم 4 بمحطة تشيرنوبيل النووية في أوكرانيا - التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي آنذاك- كان الغرض من التجربة معرفة ما إذا كانت المحطة يمكن أن تستمر في توليد الطاقة لفترة قصيرة، حتى في حال انقطاع التيار الكهربائي.

خفّض المختصون طاقة التيار الكهربائي تدريجيًا، إلى أن حدث خطأ وصل بمستوى الطاقة إلى معدل لا يضمن استقرار المفاعل، فانطلقت صافرات الإنذار، مما أشاع حالة من الهلع بين المهندسين والعلماء، وسرعان ما قرروا رفع الطاقة ثانية، ومع الارتباك وتحت ضغط قوات أمن المفاعل توالت الأخطاء، حتى أصبح حال المفاعل غير مستقر، ولما أدرك المهندسون حجم المعضلة، سارعوا لاستخدام نظام الطوارئ لإغلاق المفاعل، إلا أن الإجراء سار بشكل خاطئ من جديد، مما أدى إلى تسارع التفاعل النووي، وفجأة حدثت الكارثة.

على الرغم من ضخامة الانفجار وفداحته، ناهيك عن خطورته الشديدة، قوبل الموقف بحالة من الإنكار من الحكومة السوفيتية، وفرضت تعتيمًا إعلاميًا تامًا على الحادثة برمتها محليًا ودوليًا، وسمحت فقط بنشر بعض تقارير عن حرائق تتعامل فرق الإنقاذ معها، لدرجة ترهيب العلماء والمتخصصين عن الحديث لأي وسيلة إعلام محلية أو عالمية عن الكارثة.

وبعد يومين، أي في صباح 28 أبريل، لاحظ العلماء في محطة "فورسمارك" النووية بالسويد مستويات مرتفعة للغاية من الإشعاع على ملابسهم، فتشكّكوا أنهم يواجهون تسريبًا إشعاعيًا داخليًا، وبعد الكثير من الفحص والتحقيق بمساعدة السلطات السويدية، اكتشفوا أن مصدر الإشعاع رياح تأتي من جهة الجنوب الشرقي، أي من الاتحاد السوفيتي.

وفي مواجهة الاستفسارات المتلاحقة من حكومة السويد وحكومات أخرى مجاورة عن مصدر الإشعاع، اضطر الاتحاد السوفيتي للاعتراف بالكارثة دوليًا، إلا أنه انتهج نفس النهج الإعلامي محليًا، فصارت أبواقه تروّج بين المواطنين أن الكارثة لا ترقى للحجم الذي تدعيه الدول الأخرى، وأنها مجرد دعاية سياسية، وكان هذا التعتيم سببًا في كارثة أخرى أشد وطأةً من الانفجار ذاته، إذ أدى إلى تأخر إخلاء السكان المجاورين للمفاعل المنفجر، مما عرَّض آلاف الأبرياء لموجات قاتلة من الإشعاع النووي، أودت بأرواحهم على المدى البعيد.

ربما تكون حالة التعتيم تلك، هي الأكثر دموية في التاريخ، إلا أننا واجهنا وما زلنا نواجه حالات مماثلة، فحديثًا وفي مصر، مَنْ منا لا يتذكر مشاهد النيل الجميل على التليفزيون المصري، في وقت وصلت فيه الاحتجاجات في ميدان التحرير ذروتها، حينها لجأ المتظاهرون إلى وسائل التواصل الاجتماعي خاصة "فيسبوك" لإيصال أصواتهم، وتخطي حالة التعتيم الإعلامي الشديد من الحكومة المصرية آنذاك.

والآن وبعد مرور عشرات السنوات على حادثة "تشيرنوبيل" الشهيرة، و13 سنة على ثورة يناير، تغيّرت وتبدلت الأدوار، ففي ظل التوتر المتصاعد في أطراف العالم، ما بين الحرب الأوكرانية الروسية المشتعلة منذ سنوات، ثم تأجج الأوضاع في الشرق الأوسط لحد يجعل العالم ككل على حافة حرب عالمية ثالثة، وكأنك الآن ترى مشاهد النيل الجميل على صفحات "فيسبوك"، تعتيم تام، لا صوت يصل، وإن صرخت وصرحت ونشرت لن يجد منشورك من يراه، فورًا تحجّم خوارزميات "ميتا" المنشور وتحدد وصوله لمتابعيك، وكأن "ميتا" صارت في عالم موازٍ "ميتا فيرس" من إنتاج "مارفيل".

فلا يجد المستخدمون من وسيلة لمتابعة الأحداث والتعبير عن آرائهم، إلا الهروب من جحيم "مارك" واللجوء لمنصة أخرى مثل “إكس” (تويتر سابقًا)، التي أتاح مالكها "ماسك" بعضًا من الحرية، يتنشق فيها مستخدموها نسمات حرية تعبير محفوفة بالمخاطر.

انتهج مارك هذه المرة سياسة التعتيم ذاتها التي استخدمها من قبل الاتحاد السوفيتي، متسترًا بل متواطئًا بذلك في دماءٍ بريئة، لا تدري بأي ذنب قتلت، وكأن تلك الأرواح التي ترتقي لا قيمة لها، وأن الحديث والنشر عنها من المحرمات، ولكن وإن استمر التعتيم سيظل الحق قويًا ظاهرًا جليًا، وحتمًا ستأتي رياح التغيير، تمامًا كالرياح التي فضحت الاتحاد السوفيتي وحملت الإشعاع للسويد، لتنقذ أوروبا بالكامل من الخطر المحدق، وسيذهب المعتمون والمتواطئون إلى ذات المصير الذي واجهه الاتحاد السوفيتي وأمثاله، وإن كنا وما زلنا نرى سياساتهم خارج حدود الأدب.

search