الثلاثاء، 22 أكتوبر 2024

09:35 م

أكبر قلعة رياضية | خارج حدود الأدب

‏"في ظل الفساد السائد والتعسف من المسؤولين، فإنني، جوزيف نورتون، أعلن نفسي إمبراطورًا للولايات المتحدة، وآمر بحل الكونغرس."

كان هذا هو البيان المقتضب الذي نشرته جميع الصحف المحلية في سان فرانسيسكو عام ١٨٥٩م، نقلًا عن السيد "جوشوا أبراهام نورتون" ليعلن نفسه "الإمبراطور نورتون الأول" للولايات المتحدة الأمريكية.

جوزيف المولود بالمملكة المتحدة في عام ١٨١٨م، وبعد ترحال طويل مع والدية وصل سان فرانسيسكو عبر بوابة جنوب أفريقيا، وتخللت تلك الرحلة الكثير من النجاحات والعثرات، ولكنه لم يستطع عبور انهياره المالي التام، حينما خسر كل أمواله بعد محاولة فاشلة لاحتكار سوق الأرز في المدينة، اختفى جوزيف عن الأنظار تمامًا بعد تلك الحادثة، وعاد من جديد للظهور بهذا البيان الطريف.

منذ ذلك اليوم أصبح جوزيف يتجول في شوارع سان فرانسيسكو مرتديًا زيًا ملكيًا مصنوعًا من بدلة عسكرية زرقاء، تحمل الكثير من الأوسمة والميداليات، وقبعة طويلة تعلو رأسه، ولم يكن اللافت في تلك القصة هو ذلك الادعاء الغريب، ولكن كان اللافت تعاطي الناس مع جوزيف، فالمثير أن سكان سان فرانسيسكو لم يسخروا منه أو يعاملوه كمجنون، بل تبنوا جنونه بطريقتهم الخاصة، فأصبح نورتون جزءًا من الحياة اليومية في المدينة، كانوا يعاملونه بجدية واحترام، والعديد من المطاعم والمحلات التجارية قدمت له الطعام والخدمات مجانًا، حتى أن بعض الأماكن قبلت العملات التي كان يصدرها بنفسه والتي أطلق عليها "دولارات نورتون"، والتي أصبحت لاحقًا من القطع النادرة التي يجمعها هواة التحف.

وفي يومٍ ما في عام ١٨٦٧م، اعتُقل نورتون بواسطة أحد ضباط الشرطة بتهمة "الجنون"، مما أثار استياءً عامًا في المدينة، وانتقدت الصحف الشرطة بشدة، فسرعان ما أُُطلق سراحه بأمر من قائد الشرطة، الذي اعتذر رسميًا للإمبراطور نورتون، وتم توجيه تعليمات إلى الشرطة في سان فرانسيسكو بتحية نورتون كلما مر بهم في الشارع.

ربما تكون تلك الحادثة الطريفة واحدة من آلاف عبر التاريخ، لأشخاص ومؤسسات انتحلت ألقابًا وصفات غير مستحقة، فلقد نشأنا على بعض الحقائق العلمية المقدسة التي يعد التشكيك فيها ضربًا من الهرطقة، كمثل "الطفل المصري الأذكى في العالم"، وأن المناخ في مصر "دفيء ممطر شتاءً" والكثير من الادعاءات التي لا تحمل في طياتها أكثر من افتراضات نظرية خاوية، ولا تندرج تحت أي مقاييس أو حقائق علمية. وقياسًا على ذلك، خرج علينا المسؤولون في نادي الزمالك للألعاب الرياضية بلقب مبتكر وجديد هو "أكبر قلعة رياضية في مصر"، وهو ادعاء يقع في ذات الخانة التي يندرج فيها أن "الطفل المصري الأذكى في العالم"، فلن تجد مقياس أو دراسة أو رقم أو حقيقة واحدة تدعم هذا الادعاء. 

ولكن لم لا، إذا كان هذا الادعاء لم يسلب أحدًا ميزة أو منحة، وفي الوقت نفسه يمنح صاحبه بعضًا من الثقة المفقودة، وجانبًا من الرضا النفسي المبني على الأوهام والأحلام، فلم لا؟ لماذا نمسك بالمعول دائمًا لننقض هكذا تطلعات وأحلام، ولنتخذ من أهالي سان فرانسيسكو في تعاملهم مع "الإمبراطور نورتون الأول" العبرة، فادعاءه لم يؤذهم، بل أضفى وجوده كثير من الطرافة والبهجة في شوارعهم.

فقد كان هذا التكيف العبقري لهم مع ادعاءات نورتون، هو خير طريق لاحتوائه بل لسعادته وسعادتهم معًا، فلنأخذ منهم العظة في التعامل مع أي صاحب ادعاء أو لقب غير مستحق، ونعامله كما تعامل العم مدوبلي مع قناوي في فيلم باب الحديد فحدثه قائلًا في ختام الفيلم: "قناوي يا ابني .. انت زعلان ليه؟ ده أنا هجوزك هنومة"، وهذا لنحافظ على صحتنا وصحتهم النفسية، ولا نسمح للأمور أن تذهب خارج حدود الأدب.

search