الجمعة، 25 أكتوبر 2024

12:22 م

الاعتذار سيد الأدلة | خارج حدود الأدب

في 26 مارس عام 1995، ذهب المنتخب المصري إلى لبنان تحت قيادة المدير الفني في ذلك الوقت، محسن صالح، لخوض مباراة ودية. العجيب أن المباراة لم تكن مع منتخب لبنان الرسمي، بل كانت مع نجوم ناديي النجمة والأنصار، والأغرب أن المباراة لم تكن في إطار الاستعدادات لأي شيء، بل كانت مباراة تجريبية، تمهيدًا لخوض التصفيات المؤهلة لبطولة أمم أفريقيا 1996.

مباراة بلا هدف ولا ضغوط وبدون توتر، ولكن هذا لم يحدث على أرض الملعب. ففي خلال المباراة، وبينما كانت النتيجة تشير إلى التعادل بهدف لكل فريق، ساد توتر غير مبرر، وبدأ أحد لاعبي منتخب مصر بالاشتباك مع لاعبي الفريق اللبناني. تصاعدت الأمور سريعًا وتطور الاشتباك إلى مشاجرة شوارع بين لاعبي الفريقين، مما دفع قوات تأمين الملعب -التي كانت من الجيش اللبناني بسبب الظروف السياسية في ذلك الوقت- للتدخل للفصل بين اللاعبين وفض الاشتباك. وفجأة، اندفع أحد لاعبي منتخب مصر نحو أحد أفراد الجيش اللبناني محاولًا تجريده من سلاحه الآلي، والتقطت عدسات الكاميرات تلك الصورة لتصبح أيقونية تعبر عن الفوضى والشغب الذي قد يحدث داخل أرض الملعب.

تم احتواء الموقف، وانتهت المباراة وعاد المنتخب إلى مصر بسلام، مخلفًا وراءه عاصفة صحفية في لبنان تعترض على ذلك الأسلوب الفظ وغير المقبول من لاعبي المنتخب المصري في التعامل مع أفراد الجيش اللبناني، وكاد الأمر يتطور إلى أزمة دبلوماسية لولا تدخل العقلاء.

وفي مصر، انتظر محسن صالح قرارات حاسمة ورادعة من اتحاد الكرة تجاه اللاعبين المتسببين في تلك الكارثة غير المبررة، ولكن تمامًا كما توقعتَ عزيزي القارئ -لا حياة لمن تنادي- والحجة معروفة، أنها مجرد "حماسة زائدة ونرفزة ملعب". بادر صالح بحرمان هؤلاء اللاعبين من الانضمام إلى المنتخب، فما كان منهم إلا أن ذهبوا إلى بيت محسن صالح للاشتباك معه ومحاولة الاعتداء عليه في بيته لثنيه عن قراراته. ولعلك تتساءل أين ذهب أولئك اللاعبون المشاركون في هذه المهزلة الآن. عزيزي، إنهم على رأس هرم المنتخب الوطني؛ فمن افتعل المشكلة من الأساس حسام حسن، المدير الفني للمنتخب الوطني، ومن حاول سحب سلاح الجندي هو توأمه إبراهيم حسن، المدير الإداري للمنتخب.

وبعد مرور قرابة ثلاثة عقود على تلك الحادثة، نرى اليوم حادثة تاريخية أخرى "وإن اختلفنا على مدى فداحة الحادثتين عند المقارنة"، ولكن بأي حال سيدونها التاريخ في خانات الخزي إلى جوار سابقتها. حادثة تتلخص في المقولة ذاتها التي وُصفت بها السابقة: "من أمن العقاب أساء الأدب". إنها حادثة أخرى تكرس المبدأ المفقود في كرة القدم المصرية، وهو أن الثقافة والأخلاق أهم بكثير من المهارة والموهبة داخل المستطيل الأخضر.

لا يخفى على أحد الأحداث المؤسفة التي تزامنت مع نهاية مباراة الزمالك وبيراميدز في نصف نهائي كأس السوبر بالإمارات. ربما لن نتطرق في هذه السطور للحادث في ذاته، بل سنعرج على بعض تفاصيله. فقد كان أحد أبطال هذا الحادث لاعبًا يدعى "دونجا"، وربما دونجا الحقيقي لو علم بهذا الأمر لبادر بالاعتذار. وهنا نتساءل: من حاسب هذا اللاعب حينما قام برفع إشارات مسيئة عقب مباراة سابقة أقيمت في السعودية؟ لا أحد. من عاقب هذا "دونجا" داخل النادي أو خارجه على احتفاله المشين مع زميله زيزو؟ نفس "اللا أحد". فكان لزامًا أن يعتقد الأخ دونجا أنه فوق القانون، ويحذو حذوه زملاؤه ممن يرون الأخطاء تتوالى بلا عقاب ولا ردع.

مادام المبرر دومًا موجودًا وحاضرًا: "حماس زائد، حمية، نرفزة ملعب"، وكأن تلك هي المبررات التي معها تتلاشى أبسط المبادئ والأخلاقيات وحتى الثقافة. هذا المبرر الذي على أساسه تغاضى المسؤولون عن كارثة مباراة لبنان في الماضي، وهو ذات المبرر الذي يتغاضون بسببه عن أخطاء لا تغتفر، ليخلقوا بالتبعية أجيالًا من اللاعبين لا يقدرون الأخلاق أو المبادئ ويفتقدون للثقافة.

مستوى التعليم والثقافة في لعبة ككرة القدم يتفاوت بالتأكيد، مما يعطي مساحة من التغافل في التعامل مع ردود أفعال بعض العناصر. ولكن أن تصل إلى المسؤول الذي يعد رجل دولة، وتجده يفتقد لثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ، ويظهر كبرًا وتعاليًا يكاد يؤثر على علاقات دولية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، فتلك كارثة لا محالة.

وهنا أتساءل من جديد: قبل أن يخرج المتحدث الإعلامي لنادي الزمالك ليهدد بالانسحاب، وخلال تلك الفترة من الصمت والكبر التي لم يتخللها تصريح يتيم من مسؤول واحد بأكبر قلعة رياضية في مصر -كما يُزعم-، يستنكر ما تم توثيقه أمام الآلاف في الملعب والملايين عبر الشاشات من أفعال صبيانية من لاعبي الزمالك. وبعد ذلك البيان الهزيل الذي خلا تمامًا من أي اعتذار صريح، وكأن الاعتذار جريمة، فقط راح يمني الناس بفتح تحقيق موسع فيما أثبتته الفيديوهات. أتساءل: هل غابت ثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ عن مسؤولي الزمالك؟ هل غاب عنهم حجم المسؤولية الملقاة على عواتقهم؟ وإن حدث، ألم يكن حولهم مستشارون ينصحون؟ أصدقاء يقومون؟ حقًا؛ ألم يكن فيكم رجل رشيد؟

وبالأمس فقط، وبعد مرور ثلاثة أيام من الكِبر والعناد، وثلاثة أيام من الضغط الشعبي والرسمي، ظفرنا باعتراف واعتذار من قاطني تلك القلعة الرياضية العظيمة. جاء بيان الاعتذار وسط تساؤلات عدة: هل فات الأوان؟ ولكننا نراه، وإن أتى متأخرًا، خيرًا من ألا يأتي على الإطلاق. وحتى إن كان استجابةً لضغوط، فلعلّه يحسّن، ولو قليلًا، الصورة الهزيلة التي رسمتها تلك الحادثة وما تبعها من ردود أفعال رسمية على مدار ثلاثة أيام.

وعلى الضفة الأخرى، نجد منظومة اتحاد الكرة العظيمة اتخذت سياسة النعامة، بدفن رؤوسهم في الرمال والاكتفاء بالمشاهدة كباقي المتابعين. وهنا نؤكد أنه إن لم يكن هناك تثقيف وتقويم وتفاعل رادع مع كافة عناصر اللعبة، ستظل الأحداث داخل وخارج مصر خارج حدود الأدب.

search